اتّصل بي كريمٌ من الإخوة ينبّهني إلى أنّ المدعو منصف أبو عمر سليمي من هولندا، قد كتب في نهاية مقاله المعنون "حركة النّهضة وحصاد ثلاثة عقود: الأخطاء القاتلة..." (الجزء الثاني)، فقرة طويلة عن شخص قال عنه حسب تعبيره أنّه "سمّى نفسه عبدالحميد"، وكيف خلّف – بمقال كتبه عن مجاهد الذيبي رحمه الله وأحسن مثواه وبارك في أهله ونسله – مرارة كبيرة واستغرابا لدى الكثير من أتباع الحركة الذين كانوا بالسودان... وقد جمع المدعو منصف بين ما هو حقّ وبين ما هو باطل موقنا أنّ صاحب الشأن مجاهد – وهو في دار الحقّ – لا يستطيع ترشيده، وأنّ هذا الذي يسمّيه عبدالحميد لا يستطيع إقناعه ولا إقناع أمثاله طالما صنّفه هو من القيادة وانطلق في إحصاء أخطائه وأخطائها القاتلة... وسوف أعود بالذّاكرة إلى السودان لأكشف عن أشياء قد تساعد هذا ال"منصف" على حسن التأسّي بالرّجال وحسن التأدّب مع الموتى عليهم رحمة الله تعالى.... في أروبا اليوم لفيف يشار إليه بالبنان ويعدّه المهاجرون من أبناء حركة النهضة وغيرهم لفيفا خاصّا يسمّونه "جماعة السودان"... وكلّ تخصيص يمكن أن يكون دالاّ على الخيرية كما يمكن أن يكون دالاّ على نقيضها... وقد اتفق النّاس - بفضل الله – على أنّ خصوصية "جماعة السودان" تنبع من خصوصية علاقاتهم بعضهم ببعض من حيث الاجتماعيّات الطيّبة الرّاقية وما يلامسها من التكافل والتضامن، رغم ما شابها بمفعول طول البقاء في الغرب من بعض الفتور هذه الأيّام... ويُستثنى طبعا من هذه المجموعة أفراد محتجّون على الحركة وعلى السودان وعلى الحياة وحتّى على ربّ العالمين!... وقد ساهم في تمتين علاقة "التونسيين السودانيين" بعضهم ببعض ظروف العيش، فقد تعرّضوا دون غيرهم ربّما إلى نقص من الأموال والأنفس والثمرات، فقد جاعوا كثيرا ومرضوا كثيرا ومات منهم ثلاثة، وحرموا الكثير ممّا تمتّع به غيرهم من ملذّات الدنيا الفانية... فكانوا مضطرّين إلى بناء المجتمع "التونسي السوداني" بما توفّر لديهم من إمكانيات، فوفّقهم الله إلى اعتماد العدالة بين النّاس فكنتَ إذا دخلت بيت واحد منهم لم تجد تجهيزا مخالفا للبيت الآخر الذي كنتَ في زيارته قبله، إلاّ ما كان من عدد الأشياء فإنّها تخضع لعدد الأفراد بالأسرة، مع توحيد المنحة المصروفة للنّاس ممّا يجود به الخيّرون وضبطها بعوامل جدّ عادلة... وقد كان لهذه المجموعة قيادة منتخبة تتجدّد حسب مواعيد الانتخابات... وإذا كان هذا سعي من ابتلي بقيادة النّاس يومئذ فإنّ إمكانية وجود بعض الفروق بين النّاس بسبب تفاوت النّاس في أصولهم الاجتماعية لا يمكن منعه إلاّ بتدخّل أخلاق النّاس أنفسهم... وقد كان من بين النّاس العاملين ضمن ما يعرف ب"القيادة" شابّ ثمّ كهل ثمّ هو اليوم شيخ سمّته الظروف الأمنيّة والمظالم يومئذ "سَليم"، كلّف بكلّ ما هو اجتماعي فهو الذي يؤجّر البيوت وهو الذي يشرف على تأثيثها حسب النموذج وهو الذي يدفع المنحة لساكنيها وهو الذي كثيرا ما يرفع أكياس الدّقيق والسكر وخلافه على ظهره ليصعد بها العمارات إلى بطون ساكنيها، سائلا الله أن يجعل ذلك في سبيله وأن يبعد عنه وعن الجميع ما يفسد الأعمال... ولكنّ "السودان" أو "التونسيون السودانيون" لم يشهدوا إلاّ المحن والمصائب... بل لقد بارك الله لهم في الأسباب فعلّموا أبناءعم في بلاد الإسلام تعاليم الإسلام وتمكّنوا من تزويج الكثير من شبابهم بعد أن أنشأت تلكم القيادة بفضل الله سبحانه وتعالى "صندوق الزّواج" الذي كان مراقبا ومقنّنا بشكل لا تطاله العاطفة المائلة عن الحقّ... وفي السودان أيضا لم يكن هناك إلاّ من عمّهم الانسجام! بل لقد كان من النّاس من تجرّأ حتّى على القدر يرفضه ويتّهمه، و"عمّي سليم" كما يناديه الكثير من الأهل الطيّبين من رجال ونساء لا يزال يذكر ذلك الذي انتصب يلوم "القيادة" التي لم توفّر له أسباب الرّاحة في بلد الملاريا والشمس الحارقة والرطوبة المعوّمة... فقد أضاف "سليم" بعد حوار معه: على كلّ حال ومهما كانت الظروف فنحن في وضعية أحسن من لو كنّا بأيادي ابن علي يفعل فينا الأفاعيل (والوضع يومئذ بالدّاخل يغلي منه المخّ في الرّأس)، ليسمع ممّن يحتجّ على أدائه: والله بكلّ الحسابات (Tout compte fait) فإنّ ابن علي أحسن! ليردّ "سليم"، وقد غضب لله: والله الذي أقسمت به أنّي لا أعتبرك أخي، إذ تفضّل من أجرم في حقّ إخوانك على إخوانك وهم يخدمونك متذلّلين لك!... وفي السودان كان هناك "أذكياء" يستدرجون "أخ سليم" وقد علِمُوه حسّاسا رقيقا رغم ما يحاك حوله من حديث القسوة والغلظة، فيدعونه إلى تخصيص بعض المال لأجل تجاوز حالاتهم الخاصّة المتعلّقة بالدراسة والإقامة خارج الخرطوم فيجتهد في خدمتهم إلى درجة أنّ أحد "الأذكياء" وصفه بعد خروجه من السودان واستقراره في بلاد ليس فيها "قيادة ظالمة" بأنّه مثال للإقطاع والجبروت والديكتاتوريّة... وفي السودان وفي غيرها من البلاد تونسيون تخصّصوا في حلب البقرة الحلوب "النهضة" فلمّا نضب حليبها وتقلّص ضرعها سلخوها حيّة وشوَوا من لحمها فأكلوه ميتة ثمّ مالوا على أعراض النّاس يسوّغون الميتة بالميتة.... لمّا خرجت من السودان بقيت - وأخي الذي قد تتناوله الأقلام باسمه الجديد "رضا التونسي" كما كانت تناولته سابقا وإيّاي باسمه القديم - ثلاث سنوات أخرى أتحسّس فيها الطريق إلى بلد الإقامة، فلمّا وصلتها فكّرت جدّيا – والسبب قد انتفى – في العمل من جديد باسمي الذي اختاره لي أبي وأمّي رحمها الله ورفع منزلتها، فصرت "عبدالحميد العدّاسي" اسمي الحقيقي، أي ذات الشخص الذي عناه هذا ال"منصف"، المتكلّم بما يثقل كاهله... وإنّي لأرجو بعد هذا البيان أن يعرّفني هو بنفسه فمن كان لمّا كان هناك بأرض "أقودها" تدعى السودان، ثمّ ليقبل - إن كان من أهل العدالة - بقول ما يقوله "التونسيون السودانيون" فيّ وفيه على الملأ... ولكنّها الجرأة على ضعاف الحال حيث منعدمو الرّجولة تزداد أنشطتهم عليهم مستنصرين بأعداء الإنسانية، تماما كما يفعل برهان بسيس والملّولي وغيرهم من الصور الآدميّة التي بلّلت رؤوسهم فضلات الأنعام... لم أردّ هنا باسم حركة النّهضة لأنّي لست عضوا ناشطا فيها ناهيك بالقيادي فيها (مع أنّي عضو فيها)... ولكن والحديث عن الأخطاء القاتلة، فإنّي لا أرى خطأ أكبر من انتساب هؤلاء الذين وقفوا اليوم يصفون "الأخطاء" التي لاحظوها ورصدوها داخل الحركة - لمّا كانوا يأكلون فيها بثديّهم وبضحكاتهم الصفراء المنافقة - من أجل إنعاش رصيد ظالم تراجع باستفاقة من كانوا ولا زالوا خارج هذه الحركة... إنّها لنهاية محزنة أن يشتري المسلم (أو هكذا كنّا نحسبه) دنياه بآخرته والنّار بالجنّة.... كتبه عبدالحميد العدّاسي الدّنمارك في 8 يونيو 2010