ورثت دولة الاستقلال عن الحقبة الاستعمارية تركة ثقيلة، وكان لا بد من توفير لقمة العيش لأكثر من نصف التونسيين، أي قرابة المليونين من الجياع. وحتى المساعدات التي وعدت بها فرنسا فقد تحولت الى مساومات صريحة، اذ ربط المسؤولون الفرنسيون تجسيم وعودهم باستمرار فرنسا في التمتع بالنفوذ والتحكم في المصالح الاستراتيجية كالقواعد العسكرية وغيرها، وحاولت حكومة الاستقلال تعويض المساعدات الخارجية بالاعتماد على الرأسمال المحلي، لكن القلة القليلة من أصحاب المال في بعض الجهات ظلوا منكمشين، والأرجح أنهم كانوا متعودين بالاقتصاد العائلي وتعوزهم تجربة المغامرة والمقامرة بأموالهم في مشاريع لا سابق عهد لهم بها. البديل الشيوعي في تلك الفترة الانتقالية الحساسة فكر الزعيم الحبيب بورقيبة في الشيوعية كمذهب يمكن أن يستعير منه بعض الحلول، وهو ما أكده في حديث صحفي غداة انتخابات نوفمبر 1959 الرئاسية، فقد قال: «لا يمكن أن نأخذ من الشيوعية ما هو حسن دون الارتماء في أحضان الماركسية، فأنا أدرس هذه المدة بعض المبادئ الاقتصادية بشأن اشتراكية الملكية الفلاحية خاصة «الكلوكوز» لعلي أعمل بها في تونس، فلا أرى لماذا نحكم بصفة مبدئية على الشيوعية، فليس ذلك كفرا ولا أريد أن أصاب بمركب الفوضى واللادينية الحمراء». وذكر الرئيس بورقيبة في ذلك الحديث «قدم طلبة من جامعات باريس وغرونوبول محملين بتقارير ملآى، يقترحون فيها تحسين موارد الدولة في مختلف فروع الحياة الاقتصادية فأذنت المسؤولين في الحزب بأن يمكنوهم من زيارة المدن والأرياف التونسية أولا، وبعد هذه الجولة اعترف لي أحد الطلبة بأنه مزق تقريره بينما كان يتأهب ليعطيني درسا في التقدمية ولو لم يمزق تقريره لكنت أتبع آراءه بقدر ما تبدو لي ضرورية». الاشتراكية الدستورية واستقر الرأي في النهاية على الاشتراكية الدستورية التي تم تبنيها بشكل رسمي في مؤتمر الحزب سنة 1964 في الوقت الذي كانت تتدرج فيه البلاد نحو التعاضد، وجاء في محاضرة للرئيس الحبيب بورقيبة في لجنة الدراسات الاشتراكية سنة 1967 مقارنا بين الماركسية والاشتراكية الدستورية: «وهذه ثورة عظيمة بعثناها بينما ينكب بعضهم على الماركسية وعلى غيرها من المذاهب، وقد يقول قائل إن الأرض أو المعمل آلة انتاج، ومادام الأمر كذلك فانه ينبغي انتزاع الارض أو ذلك المعمل من صاحبه وتعويضه بغيره، واذا اتضح أن المتصرف الجديد أساء التصرف بدوره تكون النتيجة الاخفاق، ومجرد الدعوة الى الانتراع انما هي قول مردود لأنه يفرض في جميع الصور اساءة المتصرف بالاثراء واستثمار عرق جبين الغير أو استغلال الأراضي لفائدة المالكين الخواص، ومن بساطة التفكير كذلك المطالبة بتوزيع الأراضي ورؤوس الأموال على الشعب، فإذا كان المتصرف الجديد جشعا أو فشلت مساعيه، وجد المعارضون للتأميم حجة تؤيد موقفهم، بينما يقول خصومهم: ليس ذلك الا مظهرا من مظاهر الديمقراطية. نزعة الأنانية والحقيقة ان الوازع في اتيان السرقة لا يوجد خاصة في صاحب رأس المال او في العرف او في العامل الذي انقلب الى متصرف، بل هو كامن في طبع الانسان، اذ جبل كل البشر على حبّ الاستثمار والاستحواذ، ولذلك كان من المتحتم رفع مستوى الفرد، تطهيرا لنفسه من هذا الدّنس الذي فطر عليه، فالله خلق في النفس البشرية نزعات الانانية والفردية الضيقة وما قول الآخذين بالماركسية في هذا المضمار؟ هم يقولون ان هذا الاستثمار نتج عن كون ادوات الانتاج ملكا فرديا وعملية الانتاج عملا جماعيا، أجل هذه هي الفكرة العظيمة التي أتى بها كارل ماركس، واذا نحن جاريناه في هذا التفكير وأزلنا ذلك المالك الفردي ووضعنا مكانه افرادا آخرين فان النتيجة لا تكون دائما على نسق واحد في كل الحالات، بل تكون حسب قيمة الافراد. ألسنا نرى احيانا ذلك الفرد الذي كان يملك وسائل الانتاج يتصرف فيها بصورة احسن وأجدى من الذي وضعته الدولة على رأسها؟ ولن تفضي هذه العملية آخر الامر الا الى حمل الدولة على بذل الاموال، على وجه الاعانة، تسديدا لعجز المشروع. ومن اين للدولة المال الذي تعطيه؟ انه من الضرائب التي يدفعها كافة الناس. فلذلك تثور عندئذ ثائرة بعضهم فينددون بمساوئ تدخل الحكومة في القطاع الخاص وقلبه الى قطاع عام. وليس المشكل في واقع الامر تفضيل قطاع على آخر سواء كان خاصا او عاما، انما هو في كيفية التصرف، وفي طرق التوزيع بالنظر لوضع العامل، وبصورة تجعله لا يشعر معها بهضم او ضيم. تجاوز مقولات ماركس وانما الدولة لا تضطر الى التدخل الا للقضاء على الحيف الواضح. ونحن كمفكرين مسؤولين، يتحتم علينا ان نتمعن في دراسة هذا الموضوع، عوض ان نستمر في البحث عما قاله كارل ماركس، متسائلين هل ان ملكياتنا تدخل في نطاق ما يسمى بالملكية الكبرى او المتوسطة او الصغرى، ثم محاولة تحديد هذه الاصناف. وقد تعترضنا هكذا نظرية كارل ماركس السطحية التي تعتبر ان رأس المال اذا اضحى تحت تصرف الدولة، انفضت كل المشاكل وانتهت المظالم وسارت الامور على ما يرام. فكلمة رأس المال او ادوات الانتاج لا تنطبق على العمل فحسب، فكل شيء قد يصبح اداة انتاج، او وسيلة استهلاك او استثمار حسب الرغبة، ولما كان الاستهلاك نفسه معدّا لتغذية رأس المال البشري، فانه قد يعتبر في حد ذاته رأس مال بحيث انك كلما ازددت تعمقا في المسألة، ألفيت ان الصيغ والقوالب لا معنى لها الا بحسب العمل. وكل النظريات الفلسفية التي تحوم حول رأس المال، وكل ما يقوله من يدعى التخصص في هذا الموضوع، يمكن تلخيصه في انه من الممكن ان يكون كل شيء رأس مال. ومهما ذهب بكم البحث، تعودون الى مسألة اصلاح عقلية البشر، سواء كانوا تجارا او فلاحين او عمالا او اساتذة او طلبة وكم اودّ لو يتعمق الاساتذة الجامعيون والطلبة في البحث، ولو فعلوا ذلك لنظروا الى الامور نظرة جديدة، لأن الثورات الكبرى لا تكون في الغالب الا نتيجة تفكير جديد يفضي الى احلال سلّم قيم آخر مكان السلّم السابق.