· من الفئات التي تتمتع بالحصانة القضائية رجال القضاء والنيابة ( وهذا حق لا خلاف عليه ) حين يكون رجال القضاء هم الملاذ الأول لكل مظلوم ، وصوت الحق ، ورموز العدل لهم مكانتهم واحترامهم ، ولكن حين يطال الفساد أركان الدولة ، وينتشر الظلم ويختل ميزان العدل علينا أن نبحث عن أسباب هذا الخلل ، ونسأل رموز العدالة .. لماذا تعالت صرخات المظلومين وامتلأت دوائر القضاء بالآلاف القضايا ؟ وكيف استشرى الفساد بهذا الشكل ؟ وأين سيادة القانون التي اقسم الجميع على الالتزام بها ؟ · القضية التي أثيرت مؤخرا بين المحاميين "إيهاب ساعي الدين"، و" مصطفى فتوح" ورئيس نيابة طنطا " باسم أبو الروس" ، والتي اتهم فيها المحاميان بالاعتداء على رئيس نيابة طنطا ، مبررا تصرفهما أن رئيس النيابة صفع المحامى " إيهاب " على وجهه وحرض حراسه على ضربه وإهانته .. مما أدى إلى تفاقم الوضع ، وتضامن زملاؤه معه وإعلان نقابة المحامين وقفتهم الاحتجاجية واستمرار الإضراب بتجمع المحاكم بكل درجاتها لعدم صدور قرارات من النائب العام تفيد بحل الأزمة والاستجابة لمطالب النقابة بتحقيق المساواة في محاسبة الطرفين ... ولم يكتف المحامون بإضرابهم بل اعتدوا على المحامى العام بطنطا واحتجزوا أعضاء النيابة مطالبين بالإفراج الفوري عن زملائهم وإعادة الكرامة لمهنة المحاماة !! · رئيس النيابة بشر وكل بشر خطاء ، والمحامى أيضا بشر ، وكلاهما يتمتعان بحصانة لابد أن ترفع عندما يتهم اى منهما بارتكاب خطأ جسيم ( الصفع أو الضرب أو الاعتداء بالسب والقذف أو باى جريمة تخل بالشرف والنزاهة والأمانة ) فكم من رجال قضاء أساءوا لمكانتهم ومهنتهم !! وكم من محامى أساء بتصرفاته إلى مهنة المحاماة... إذن الكل متفق أن لكل قاعدة شواذ.. وان علينا ألا نعمم الإساءة على الكل ، لان هناك الكثير من رجال القضاء والقانون يتصفون بالنزاهة والشرف . · ولكن لو أردنا معرفة أسباب انفجار الأزمة بين كلا من رجال النيابة والمحاميين رغم أن كلاهما جناحي العدالة ، وخريجي كلية واحدة هي كلية الحقوق ، علينا أن نذهب إلى اقرب مقر نيابة أو محكمة لنرى الهالة التي يحاط بها رجال النيابة داخل المنظومة القضائية مقارنة بموقع المحامى من تلك المنظومة القضائية ، وكيف يعامل وكلاء النيابة ورؤساؤها هؤلاء المحاميين ؟ تصل في بعض الأحيان إلى الازدراء والتعالى والغرور وربما التجاهل لساعات يقف فيها المحامى على باب وكيل النيابة أو رئيسها حتى يأذن له بالدخول ، علاقة بين الطرفين يحكمها التقدير العام في ليسانس الحقوق لكل منهم ، وأحيانا الواسطة ، بينما تختفي تلك الهالة أمام كروت الواسطة ، وأمام زيارات أصحاب النفوذ لمكاتب أعضاء النيابة .. هذا الأمر لا أقوله تجنى على السادة وكلاء النيابة ولا رؤساءهم ، ولا دفاعا عن طبقة المحاميين ، وإنما تشخيصا وتصويرا لحال فئتين من أرقى فئات المجتمع مكانة ( رجال النيابة – المحاميين ) .. وإذا أضفنا إلى ذلك ، المستوى المتدني للحجرات المخصصة لانتظار المحاميين مقارنة بمكاتب السادة وكلاء ورؤساء النيابة ..!! ندرك على الفور الفارق الشاسع بين جناحي العدالة في دولة تصر على التمييز بينهما . · رئيس النيابة ( باسم أبو الروس ) أخطأ خطأ جسيم عندما تطاول على المحامى ( إيهاب ) وقام بصفعه وحصانته القضائية لا يجب أن تكون عائقا أمام محاسبته ، والمحامى أيضا أخطأ بردة فعله ويجب أيضا محاسبته .. وكان من المفترض أن تحسم تلك القضية على الفور بمحاسبة الطرفين إذا كنا نؤمن حقا بسيادة القانون ، وليس بمحاسبة طرف وترك الأخر ، وهذا ما أغضب نقابة المحامين ودفعها للاحتجاج ، وإذا استمر القضاء في تعنته وأصر على محاسبة المحامى فقط ، هنا علينا أن نتوقع ليس فقط اختلال ميزان العدالة بل علينا أن نتوقع اتساع الفجوة بين الطرفين ، وغياب العدل كأساس وقيمة ، وفقدان الثقة في أخر معاقله في هذه الدولة . · المحام الذي قام رئيس النيابة بصفعه والذي لا نبرر حقيقة ردة فعله على الاهانة والصفع ، لو كان كمحام مدرك أن القانون سيأخذ له حقه لما كان استشاط غضبا ، ولكان أول الساعيين لاتخاذ إجراءات قانونية ضد رئيس النيابة ولكنه لجأ إلى ما لجأ إليه لأنه بخبرته في محفل القضاء جعله يضع في حساباته أن رئيس النيابة وكل من حوله لن ينصفوه وانه بحكم الأمر الواقع أمام خصم وحكم في آن واحد .. فمن هو الشخص الذي سيكون لديه الشجاعة للشهادة ( شهادة حق ) ضد رئيس النيابة .. الحرس الخاص برئيس النيابة والذي شاركه في الاعتداء على المحام ؟ آم وكلاء النيابة ضد رئيسهم ؟ وبالتالي فغياب تلك الشهادة كان سيكون أفظع درجة من درجات الظلم والقهر ..عز على المحامى أن يضع نفسه على سلمها ، لذلك لجأ إلى العنف لاسترداد كرامته وحمايتها ... هذا النهج غالبا هو السائد في مصر اللجوء إلى القوة لاسترداد الحق والكرامة لأننا أصبحنا في زمن غياب شهادة حق تنصف مظلوما ، وفي زمن غياب الضمير ، وزمن الولاء لأشخاص وأفراد ، متناسيين ولاءنا للخالق ، ففي مصر بات يحكمنا الانتماء الفئوي ، كل فرد ينتمي للفئة التي يعمل داخل منظومتها ، واختفى شعار الولاء لله والدين والوطن والحق . · رئيس النيابة هل يستطيع تقديم الاعتذار للمحامي الذي صفعه ويقر بأنه أخطأ في حقه وأهانه ؟ هل يستطيع تحمل مسؤولية فعلته التي أدت إلى تفاقم الأزمة بهذا الشكل الغير مسبوق ؟ لا اعتقد طالما أصر نادي القضاة على نصرته ظالما وليس مظلوما خوفا من تكرار ماحدث اى إن كانت مبرراته .. وحل المشكلة لن يكون باعتذار هذا أو ذاك ، بل يكون بعودة " الضمير الغائب " عن الساحة منذ عقود ، وعودة الولاء لله والحق ، واختفاء شهادة الزور التي خربت البيوت والذمم وأطاحت بميزان العدل ، وكف الايادى عن صفع اى إنسان وإهانته فالله الذي كرم الإنسان وأمر ملائكته أن تسجد له ..لماذا يهينه البشر ويستخف به ؟ الدنيا قامت ولم تقعد بسبب صفعة على وجه محام بينما المواطن العادي تصفعه كل الايادى ، فهل صفع المحامى جريمة وصفع المواطن العادي البسيط في أقسام الشرطة وفى الشوارع وفى مقرات النيابة وجهة نظر ؟ · إن ثقافة العنف التي استشرت حتى بين رجال النيابة لهو أمر محزن ومبك في آن ، وترجع إلى هالات القدسية التي أغرت البعض منهم ، ودفعتهم للغرور والاستكبار على خلق الله ، وكان من المفترض أن يكونوا هم أكثر الناس تواضعا وانحناء لقيم العدالة والحق حتى ينحني الناس لهم احتراما وتقديرا بدلا من التطاول عليهم .. فلا ربطات العنق ولا البدل الشيك ، ولا الحرس المصاحب لهؤلاء هو من سيرفع مكانتهم في عيون الآخرين ، بل مكانتهم سترتفع بمقدار تواضعهم وتطبيقهم للعدالة وشعورهم بهموم الناس وآلامهم واحترامهم لقيمة الإنسان ، حينها سيكون الناس البسطاء هم مصدر حمايتهم وأمنهم .. فلنعتبر ما حدث بداية صحوة تعيد لنا الضمير المفقود والعدالة الغائبة ، وكرامة الإنسان .