من الإذاعة الفرنسية بتونس إلى الإذاعة القومية التونسية تماما مثلما أصرت على الحفاظ على ثكناتها وجنودها بالجنوب إلى حدود 1958 وقاعدة بنزرت فقد تشبّثت فرنسا ب»الاذاعة الفرنسية بتونس» ولم تتنازل عنها لا بعد الاستقلال الداخلي في 3 جوان 1955 ولا حتى بعد الاستقلال التام في 20 مارس 1956. ولم تتمكّن حكومة الاستقلال من تَوْنسة الاذاعة الا بعد مفاوضات عسيرة، تُوّجت يوم 29 أوت 1956 أي بعد 5 أشهر من الاستقلال وكانت إحدى حلقات تصفية الاستعمار. شملت مفاوضات الاستقلال الداخلي تَوْنسة الاذاعة كأحد مقومات السيادة الوطنية، لكن الجانب الفرنسي ظلّ يماطل وبقيت الاذاعة تحت إشراف الحكومة الفرنسية حتى بعد أن تحصّلت تونس على استقلالها الداخلي يوم 3 جوان 1955. في الأثناء تم التوصل الى صيغة وفاقية بعض الشيء بموافقة فرنسا على تعيين مدير مساعد تونسي، وتم اقتراح ثلاثة أسماء على الادارة العامة للاذاعة والتلفزة الفرنسية في باريس هم رشيد ادريس، ومصطفى الفلالي والطيب السحباني، وتمت تسمية الفلالي بصفة رسمية في موفى ديسمبر 1955. وانطلقت الاذاعة، بعد تونستها جزئيا، في نشاطها الاعلامي بتغطية حملة انتخابات المجلس القومي التأسيسي بداية من 23 مارس 1956 وتخصيص حصص دعائية لمرشحي الجبهة القومية والحزب الشيوعي والمستقلين. بعد تلك الانتخابات وتولّي الزعيم الحبيب بورقيبة تشكيل حكومة الاستقلال في أفريل 1956، تم تعيين مصطفى الفلالي كاتب دولة للفلاحة والبشير بن يحمد كاتب دولة للأخبار. وكلف عبد العزيز العروي يوم 20 أفريل 56 بإدارة القسم العربي للاذاعة ريثما يتم تعيين مدير مساعد جديد. صوت الجزائر الحرة في تلك الفترة الانتقالية انطلقت الاذاعة يوم غرة جويلية 1956 في بث برنامج «صوت الجزائر الحرة» مساندة للثورة الجزائرية في وقت كانت فيه فرنسا تعتبر ان الجزائر جزء لا يتجزأ منها وقد أثار ذلك البرنامج حِنْق غلاة الاستعمار. ورأت الحكومة الفرنسية في «صوت الجزائر الحرة» مساسا بمصالحها وأمنها واعتبرت أنّ لهجة البرنامج حادة ولا يمكن قبولها. وكان الزعيم الحبيب بورقيبة آنذاك في باريس لمواصلة التفاوض حول التكافل والاستقلال التام وأيهما يسبق الآخر. وتطويقا للأزمة وعد «بمراقبة الاذاعة حتى لا يصدر منها في المستقبل ما لا يفيد قضية الجزائر الشقيقة» وعرض على كاتب الدولة للشؤون المغربية والتونسية تغيير عنوان البرنامج ليصبح «صوت الجزائر العربية الشقيقة». رغم ذلك لم ينته الحادث، إذ قدم ممثل فرنسا في تونس لائحة احتجاج «في لهجة هي أكثر جرحا للعواطف من عبارات الحصة الاذاعية التي أثارت الأزمة». ورفضت الحكومة التونسية ذلك الاحتجاج وقرّر الزعيم الحبيب بورقيبة عندئذ الإبقاء على الحصة «كجواب على ما يدّعيه الجانب المقابل من أنّ الجزائر أرض فرنسية». واتّسعت دائرة الأزمة وازدادت تصعيدا من خلال لهجة الصحافة الفرنسية، من ذلك ما جاء في لوفيغارو «إنه من المفيد لفت نظر رئيس الحكومة التونسية الى أنّ محطة إذاعة تونس مازالت ملكا من أملاك الحكومة الفرنسية». وردت الصحافة الوطنية من جانبها بما يلزم من الحزم إزاء الموقف الفرنسي المتغطرس «نحن فيما نظن أحرار لضبط برنامج إذاعة تونس كما نريد ونشتهي ولا يمكن أن يكون تجهيز الاذاعة من قبل فرنسا مبررا للتدخل في عواطفنا وشعور بأي حال من الأحوال». وهدد فنيو الاذاعة الفرنسيون بالاضراب وإيقاف العمل بالقسم العربي إذا ما واصلت الاذاعة حصصها الخاصة بالجزائر. ومن التهديد الى التنفيذ اذ امتنع الفنيون الفرنسيون عن بثّ خطاب رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة في مهرجان أسبوع الطالب، فندّد الاتحاد العام لطلبة تونس بذلك محذرا مدير الاذاعة الفرنسي من مغبّة مثل تلك المواقف. ووجدت حكومة الاستقلال في تلك الأزمة، الفرصة السانحة لتجعل من تونسة الاذاعة أولوية شأنها شأن جلاء الجيوش الفرنسية من الجنوب التونسي ومسألة حراسة الحدود وأمنها. وبدأت المفاوضات في جويلية 1956 وصرح الزعيم الحبيب بورقيبة «لا حاجة لنا الى اذاعة في تونس الحرة المستقلة تدعي فرنسا ملكيتها، بل نفضّل الغاءها اذا لم تكن الحكومة التونسية هي المسيطرة عليها». اتفاقية التونسة وتم في موفى أوت 1956 إبرام اتفاقية التونسة. «إنّ الاتفاقية التي أمضيناها اليوم 29 أوت 1956 تقضي على هذا الماضي قضاء مبرما لا رجعة فيه. انتهى اليوم عهد الاذاعة الفرنسية بتونس وغدا تبرز للوجود الاذاعة التونسية القومية». ذلك ما صرح به البشير بن يحمد كاتب الدولة للأخبار والارشاد ونظيره الفرنسي «جاكي» كاتب الدولة الفرنسي للأخبار إثر التوقيع على اتفاقية تونسة الاذاعة. وينصّ الاتفاق على أنّ اذاعة تونس تصبح في 31 مارس 1957 «الاذاعة القومية التونسية»، ويُوضع القسمان الفرنسي والتونسي تحت إدارة الحكومة التونسية ورقابتها وتقتني السلطات التونسية المحلات والتجهيزات ويبقى الفنيون والمذيعون الفرنسيون في مراكزهم وتقدّم الاذاعة الفرنسية المساعدة الفنية للاذاعة التونسية، كما تتولّى إذا رغبت الحكومة التونسية تكوين الفنيين المسلمين الذين يحلون تدريجيا محل زملائهم الفرنسيين وتعين الحكومة الفرنسية مديرا عاما مكلفا بإدارة القسم الفرنسي. وجاء في تصريح البشير بن يحمد «يكفي أن أقول إنه بعد عشرين سنة بعد تأسيس اذاعة فرنسابتونس سنة 1936، لا يوجد تونسي واحد في الجهاز الاذاعي بالجديْدة ولا تونسي واحد في قسم المحاسبة وان الفنيين التونسيين يعدون على أصابع اليد وأنّ جميع الموظفين في الاذاعة من كاهية المدير المشرف على القسم العربي الى البوّاب، الى الشاوش، يتقاضون جراياتهم من الميزانية الفرنسية. ونذكر كلنا الخدمات التي أدتها اذاعة تونس لنظام الحماية في أيام محنتنا، يوم كان المشرفون على الاذاعة العربية نفسها ضباطا فرنسيين ومستشرقين ومستعمرين ويوم كان التونسيون الذين قبلوا ان يخدموا في ذلك النطاق يأتمرون بأوامر الاقامة العامة. وكلنا يذكر أنه بعد الاستقلال الداخلي وفي الايام الأخيرة نفسها قبل الاستقلال التام، لاقت الحكومة التونسية صعوبات من قبل الفنيين الفرنسيين والمسؤولين السابقين عامة عن الاذاعة. إنّ الاتفاقية التي أمضيناها اليوم تقضي على هذا الماضي قضاء مبرما لا رجوع فيه. انتهى اليوم عهد الاذاعة الفرنسية بتونس وغدا تبرز للوجود الاذاعة التونسية القومية.