شهدت الأيام المنصرمة أحداثا تونسية تؤشر كلها على عزلة السلطة التونسية وفقدانها لورقات التوت المزيفة الرقيقة التي سترت بها عورتها يوم اغتصبت السلطة في ذات هزيع من ليالي شتاء 1987. عمادة المحامين. ذكر السيد صالح عطية في الصباح اليومية التونسية الرسمية إثر انتخابات عمادة المحامين التي جرت في الأيام المنصرمة بأنّ فوز العميد الجديد الأستاذ عبد الرزاق الكيلاني يعزى إلى مساندة الإسلاميين والمستقلين. ومعلوم أنّ مرشح السلطة مُني بهزيمة واسعة في تلك الانتخابات التي شهدت إقبال الآلاف من المحامين. سؤالنا هو: إذا كان للإسلامين ذلك الوزن المعتبر في صفوف المثقفين والحقوقيين والنخبة حتى بعد حرب داحس والغبراء التي قادتها السلطة بقيادة بن علي لاستئصال الوجود الإسلامي بقوة البوليس وضراوة التعذيب فما هو المبرر لإقصائهم من الحياة السياسية والإعلامية والحزبية؟ إذا كان قطاع المحاماة يشهد ذلك الثقل الإسلامي فإلى متى تتواصل سياسة العمل بخطة تجفيف منابع التدين وإلى متى يتواصل العمل بتجميد الحريات وإلغاء الديمقراطية؟ ألا يعكس ذلك سفساف السلطة التي تدّعي أنّ الإسلاميين مجموعة من الظلاميين الإرهابيين المتطرفين الذين يهددون المكتسبات التقدمية؟ كيف يكون المحامي الإسلامي وكثير من المستقلين إنما يختارون البديل الإسلامي عندما تجرى في البلاد انتخابات حرة ديمقراطية ولكن اضطر كثير من الإسلاميين في مواقع نخبة كثيرة في البلاد إلى رفع لافتة الاستقلال فرارا من دبابة السلطة ضد كل ما يمت إلى الإسلام بصلة كيف يكون المحامي الإسلامي ظلاميا وهو رجل النخبة المثقف وصاحب الشهادة الجامعية؟ بل كيف يكون إرهابيا متطرفا وهو نصير المستضعفين والمقهروين والمطرودين ممن سحقهم إرهابُ السلطة في أكثر من حقل ومجال؟ إن هي إلا المكابرة العنيدة من سلطة بنت مشروعيتها من أول يوم قبل أزيد من عقدين على العبث بحقوق الإنسان وقتل الديمقراطية وجعل الدولة بمؤسساتها غنما يسيرا للعائلة المالكة الحاكمة. أي مشروعية لسلطة لفظتها النخبة الحقوقية في البلاد لفظ النواة؟
تونس الثانية في الفايس بوك دوليا. تونس هي الثانية دوليا من حيث إقبال مواطنيها على الفايس بوك. خبر جديد ومثير في الآن ذاته. خبر له أكثر من دلالة من أكبرها أنّ دبابة السلطة ضد الإعلام الحر في البلاد بكل ألوانه وصوره ما تذر من صوت حر إلا أتت عليه فجعلته كالرميم. نقلت إلينا وكالات أنباء موثقة سابقا فضلا عن أكثر الجمعيات الدولية الحقوقية عراقة ومصداقية أنّ تونس هي العدو الأول في الأرض ضد الإعلام الإلكتروني وقالت تلك المصادر عن رئيس الدولة أنه بينوشيه العرب وأنه القاتل الضاحك لفرط مُرود الدولة في عهده على النفاق الذي يصدر خطابا ديمقراطيا يغازل به الأروبيين ويدهس به الأحرار في البلاد. واليوم تنقل إلينا الأنباء أنّ تونس هي الثانية دوليا في العالم كله من حيث إقبال التونسيين على الفايس بوك. دلالة ذلك تعني أنّ مساحات الإعلام ضاقت عن أهلها في البلاد فلم يعد أمام التونسيين إلا متنفسات قد يعسر على السلطة متابعتها رغم أنّ الأنباء تؤكد في الأيام الأخيرة أنّ السلطة قامت بالتضييق والتشويش على السكايب حتى ضج التونسيون المقيمون بالخارج من غير المحاكمين والمطاردين بسبب أنهم يتصلون مع ذويهم بالسكايب بسبب مجانيته وميزات أخرى مقارنة مع وسائل اتصال أخرى. العبرة من ذلك حصدها الناس منذ سنوات طويلة وهي أنّ ثورة الاتصالات الحديثة هي المهدد الوحيد والعدو الأوحد ضد الأنظمة الشمولية التي عفا عنها الزمن والنظام التونسي على رأس تلك القائمة بالتأكيد. أيّ مستقبل لسلطة تتابع مواطنيها من أجل كلمة أو قلم أو لسان أو صوت أو صورة أو رسم أو اجتماع؟ أي مستقبل لسلطة تكون الثورات العلمية خطرا على وجودها ومهددا لتجددها؟ تلك سلطة قروسطية المتاحف أولى بها لولا أنّ البوليس يحميها بعصاه الغليظة.
تحالف المواطنة والمساواة. نشأ تحالف سياسي جديد في تونس قبل أيام قليلة يُسمى باِسم: تحالف المواطنة والمساواة. يضم أربعة فصائل سياسية هي: حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي سابقا) والتكتل من أجل العمل والحريات بزعامة السيد مصطفى بن جعفر وكلا الفصيلين معترف به من السلطة. وكذلك من تيار الإصلاح والتنمية بزعامة السيد محمد القوماني عقِب خروج ذلك التيار من الحزب الديمقراطي التقدمي قبل شهور طويلة (خلفية ذلك الخروج هي الخلفية ذاتها التي تحدث من حين لآخر في بعض الأحزاب والحركات السياسية التونسية وهي أنّ بعض النخبة بسبب شدة الانسداد والاحتقان العنيف المتواصل في الحياة السياسية في البلاد في ظل هيمنة عائلة بن علي وزوجه على مقاليد البلاد بالحديد والنار.. تظن تلك النخبة أنّ المشكلة هي في الخيار السياسي لأحزابها وهو الخيار الذي يصر على افتاك أكبر ما يمكن من مساحات الحرية في البلاد بالضغط السياسي المعتدل والتدافع الإعلامي المتوازن.. لذلك تسقط تلك النخبة في مشكل عويص تنخرط في إثره في العزوف عن نقد السلطة أو مساندتها في بعض خياراتها ظنا ساذجا منها أنّ ذلك كفيل باستجداء الحريات.. ثم تكتشف تلك النخبة أنّ اللعبة لم تكن سوى مناورة من السلطة لتشق صف تلك الأحزاب وتوهين فعلها فإذا خرجت النخبة من هيئاتها السابقة كذبت السلطة كالعادة وألف ألف عادة وبقيت تلك النخبة في ورطة تسلل سياسي).
اِقرأ معنا تحليل التحالف السياسي الجديد. قال في تصريحاته أنّ البلاد تعيش "انغلاقا كبيرا" و"انحسارا للمواطنة وتعطلا لمسار الإصلاح السياسي الذي تعهدت به السلطة من بعد انتصابها". ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أنّ تحليلا سياسيا واحدا هو محل اتفاق من مختلف الأطراف المعارضة في البلاد بمختلف مواقعها قربا وبعدا من السلطة. هيأة 18 أكتوبر (تضم أبرز المعارضات الأخرى ومنهم الإسلاميين) مشكلتها مع السلطة مشكلة انغلاق حاد واحتقان مسدود وانحسار للمواطنة وتعطل لمسار الديمقراطية وتراجع السلطة عن وعودها التي ضربتها قبل عقدين بل أزيد. حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة الدكتور المرزوقي كذلك. النخبة كذلك. الجميع متفقون على التحليل السياسي ذاته إلا السلطة التي تكابر وتعاند وترد على ذلك بالعصا والتشريد. أركان التحالف السياسي الجديد أحزاب سياسية معترف بها من لدن السلطة. بعضها ممثل في البرلمان. بعضها محسوب على السلطة بوجه أو بآخر. بعضها معروف بتوجهاته الاستئصالية سيما في موقفه من انضمام الإسلاميين إلى هيأة 18 أكتوبر. إذا كان ذلك كذلك وكان ذلك هو ما انتهى إليه ذلك التحالف فإنّ ذلك لا يعني سوى أنّ السلطة كذبت ألصق الكيانات بها وأقربها إليها وخذلته، وذلك هو صنيعها الذي لا يتخلف إذ الذاكرة التونسية متينة على نحو لا تتناسى فيه أنّ السلطة ذاتها قبل عقدين كاملين وتحديدا عام 1991 وعدت المعارضة كلها بالتحالف معها لاسئصال الإسلاميين ثم لها الجنة الموعودة.. تحالف معها من تحالف وتحالف مع الحريات من تحالف (للأمانة والحقيقة والتاريخ فإنّ الدكتور المرزوقي هو الذي لم يبدل في قضية الحريات ولم يغير بل بقي وفيا في زمن يكاد ينقرض فيه الوفاء والأوفياء).. ثم أدركت المعارضة كذب السلطة فعادت إلى قضية الحريات بقوة وهي على ذلك ثابتة حتى اليوم.. فهل تلدغ المعارضة من جحر السلطة مرتين!!
مأزق الإنسداد الديمقراطي. ذلك هو عنوان ندوة نظمت في باريس في الثاني من تموز يوليو من الشهر الجاري. ندوة نشطها السيد حسين الباردي وشارك فيها سهير بلحسن رئيسة الفدرالية الدولية لرابطات حقوق الإنسان وسهام بن سدرين عن المجلس الوطني للحريات وخميس الشماري المستشار الدولي المعروف في حقوق الإنسان وكمال الجندوبي رئيس اللجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان. انعقدت الندوة بمساندة حركة النهضة والمنظمة الدولية للمهجرين التونسيين وحركة التجديد (عضو تحالف المواطنة والمساواة آنف الذكر) والمؤتمر من أجل الديمقراطية وأحزاب وحركات وجمعيات أخرى.. السبب المباشر لهذه الندوة هي فضيحة القانون الجديد أي الفصل 61 مكرر من المجلة الجنائية الذي صادق عليه البرلمان التونسي حول المساس بالأمن الاقتصادي والذي أجمعت كل القوى في الداخل والخارج فضلا عن الجمعيات الحقوقية الدولية على أنه مسمار آخر في نعش الحريات والديمقراطية الذي ما فتئت السلطة تنسجه مسمارا بعد مسمار متجاهلة أنّ النعش الذي صنعته لدفن الحريات هو ذاته الذي تصنعه لعصابتها الحاكمة والمالكة. (أنظر كلمة حرة سابقة للحوار.نت حول تفاصيل ذلك القانون الفضيحة وتداعياته). أصابت الندوة حقا عندما تعنونت ب"مأزق الانسداد الديمقراطي في تونس". انسداد ظل يلاحق الأحرار في الداخل وفي الخارج سواء بسواء. انسداد يرمي في زمن ثورات الاتصال والإعلامية إلى إلجام كل لسان وإخماد كل قلم وإسكات كل كلمة وتظليل كل صورة لتكون باهتة.
الخلاصة. كل ذلك لا يدل سوى على أنّ السلطة تحفر قبرها بطيشها وحمقها وتماديها في سياسة تكميم الأفواه بما يذكر بالحقبات اللينينية الستالينية البغيضة. كل ذلك يعني أنّ السلطة تتفاقم عزلتها عن المجتمع وفعالياته يوما بعد يوم.