مسلسلات دينيّة برائحة طائفيّة: كيف يحمي المجتمع نفسه ويحافظ على تماسكه ! بقلم: محمد رضا سويسي
ثار خلال شهر رمضان الحالي جدل كبير حول إقدام قناتين تلفزيّتين خاصّتين على بث مسلسلات تلفزيّة من إنتاج إيراني فيها تجسيم لبعض أنبياء الله عليهم السلام وقد بادر عدد من المحامين إلى رفع عريضة إلى مفتي الدّيار التونسيّة باعتباره الممثّل الرّسمي للدّولة في الفصل في القضايا ذات الخلفيّة العقائديّة وهو بلا شكّ ينتمي إلى المذهب الرّسمي للدولة الّذي هو في نفس الوقت مذهب الأغلبيّة السّاحقة للشعب أي المذهب السّنّي المالكي. ووجه الخلاف هنا هو أنّ المذهب الشّيعي لا يرى في تجسيم الأنبياء والرّسل مأخذا بينما ترفض المذاهب السنّية الأربعة ذلك وتعتبره مسّا من قداسة الأنبياء وهو حكم يشمل الأنبياء جميعا ولا يخصّون به الرّسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلّم فحسب. وقد سبق أن أُثيرت هذه القضيّة عند قيام المخرج الشّهيد مصطفى العقّاد عند إنجاز شريط الرّسالة وانتهى الأمر إلى عدم تجسيد صورة الرسول عليه الصّلاة والسلام والاكتفاء بنقل الكلام عنه أو تجسيم حلوله في المدينة المنوّرة عند الهجرة بحركة النّاقة دون أن يمسّ ذلك من جماليّة الشّريط أو يُخلّ بمضامينه الدّينيّة أو الحضاريّة وهو ما كان ينطبق دائما على كلّ الانتاجات التلفزيّة أو السينمائية أو حتّى الإذاعية عبر الصّوت. وقد مثّل بثّ هذه المسلسلات في قنوات تونسيّة منطلقا لجدل تجاوز البعد الفقهي إلى تجدّد المخاوف من أن تكون مثل هذه المسلسلات وغيرها من "الأدبيّات" مداخل لبث خطاب دعائيّ شيعيّ في البلاد خاصّة وأنّ المذهب الشّيعي مثله مثل كل المذاهب الأخرى لم يتوقّف يوما عن محاولة الانتشار واستقطاب الناس . على أنّنا وإن كنّا نجهل دوافع هذه القنوات في بثّ المسلسلات فالأرجح أنّ الخلفيّات المذهبية لم تكن حاضرة في أذهان القائمين عليها بل ما كان حاضرا هو ضرورة توفير مسلسلات ذات طابع ديني تتماشى وطبيعة الشهر الكريم لكن بأقل التكاليف وهذا الشرط بالذات أي انخفاض التكلفة سيكون حاضرا في مثل هذه المسلسلات . أمّا الحصيلة النّهائيّة فهي هذا الجدل الذي قام ولم يقعد وهذا الصّخب الذي يكاد يصوّر السّاحة الوطنيّة في تونس ساحة صراع مذهبيّ وعقائدي وهو ما بدا واضحا على صفحات الفيسبوك حيث تحوّل الموضوع إلى محور جدل ومقالات وجدت من يترصّدها بالتعاليق ذات المناحي المختلفة بين نظرة سلفيّة تنتصر بحدّة لرفض بث هذه المسلسلات ونظرة لائيكيّة تنزل بالأنبياء إلى مرتبة الناس العاديّين الذين لا فرق بينهم وبين عامّة الناس وبالتالي فلا إشكال في تجسيمهم صوتا وصورة وبين من يعتبر المسألة برمّتها ذات علاقة بحرّية التعبير من منظور ليبرالي. ووسط كلّ هذا نرى أنّه لا سلطة الإشراف ومؤسّسات الدّولة الثقافيّة والإعلامية أعطت موقفا ولا مؤسّسة الإفتاء ردّت الفعل وكأنّ الموضوع من البساطة بحيث يمكن أن يُترك للتفاعلات التّلقائيّة للسّاحة. هذا الأمر يمكن أن يُتناول في الإطار الأشمل لتُطرح عدّة أسئلة: لماذا تقوم سلطة الإشراف بتمويل مسلسلات ثقافيّة مائعة لا تنسجم لا مضمونا ولا روحا مع شهر رمضان بينما لا تقوم بذلك مع مسلسلات ذات مضامين ثقافيّة وحضاريّة تنسجم مع روح هذا الشّهر؟ لماذا تجد مثل هذه المسلسلات ومثيلاتها من البرامج الدّعائيّة المخلّة بهويّة شعبنا وثقافته وعقائده الفراغ لتتسرّب إلى وسائل الإعلام المختلفة العموميّة منها والخاصّة ليس خلال شهر رمضان فحسب وإنّما على امتداد السّنة؟ إن هذه الأسئلة وغيرها تؤكّد الحاجة الملحّة إلى إعادة صياغة السّياسة الثقافية والإعلامية وهيكلة مؤسّساتها على مقتضى أهداف وطنيّة واضحة قادرة على حماية المجتمع من الاختراقات ومواثيق مهنيّة وأخلاقيّة ملزمة لجميع الفاعلين الثّقافيّين والإعلاميين، فقطاعا الثقافة والإعلام متلازمان ويجب أن يخضعا لوضع إستراتيجية بناء وتطوير موحّدة تكون نتاجا للثوابت الوطنيّة والقوميّة ولحوار وطنيّ حقيقيّ ينطلق من تلك الثّوابت ومن رؤية علميّة تضع المصلحة الوطنيّة وإطارها الحضاري فوق كل الاعتبارات الرّبحيّة والآنيّة الضيّقة.