عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات" . وقال صلّى الله عليه وسلم: "كفى بالموت مزهدا في الدنيا ومرغبا في الآخرة". أمّا عمر رضي الله عنه فقد نقش على خاتمه عبارة "كفى بالموت واعظا يا عمر".. ولقد رأيت الموت يأخذ منّا - بدون استئذان - رجلين من رؤسائنا في رمضان هذه السنة. أمّا أحدهما فهو الشيخ زائد رحمه الله وكان قد اشتهر بسخاء دولته التي لم تقصّر في الجود بالمال الذي أنعم الله به عليها في أغلب بلاد الإسلام، ولعلّه إن أخلص لله في بذله شفع له عند ربّه. وأمّا ثانيهما فهو عرفات غفر الله له وكان قد ارتبط اسمه بنضال شعب طالت محنته مع العدوّ الغاصب الذي استعان عليه طيلة ما يقارب الستين سنة بتخاذل حكّامنا وتخرُّق قادتنا. ولقد حضر الكثير من الرّؤساء جنازة عرفات في مراسم أرادتها فرنسا أن تكون بتلك الدرجة التي حدّث بها كلّ من رأى وسمع. وتونس كأغلب البلاد العربيّة لم تتأخر عن جنازة عرفات سيّما وقد تكرّمت مصر العروبة بإقامة مراسمها على أرضها مقرّبة بذلك شقّة كانت بعدت كثيرا مع الشيخ زايد رحمه الله ما أفقدنا القدرة على بلوغ تلك الأرض... رئيس تونس، زين العرب كما يسمّيه الفقيد، تأثّر كثيرا للمصاب الجلل فلبس الأسود واسودّت الدنيا في عينيه إلى درجة أنّه أبطل الاحتفال بالعيد الذي لم يتأخّر هو الآخر عن العزاء في دور المسلمين حيثما كانوا في فلسطين أو في العراق أو في تونس أو في غيرها من البلاد التي تعيش النكبة نتيجة وهن بعض أبنائها أو خيانة بعضهم الآخر. ولقد رأيته في الصفّ الأوّل يشيّع جنازة قائد شعب "الجبّارين" مطأطئ الرأس مرخي الطرف شارد الفكر وقد تصوّر المشهد (أحسبه): حفرة أضيق من تلك الغرف التي يقبع فيها سادتنا المناضلون من أمثال لطفي السنوسي وبوراوي مخلوف ونجيب اللواتي والهادي الغالي وغيرهم كثير، يسجّى فيها ويترك هناك وحده بلا أنيس ولا صاحب ولا حتّى سجّان أو كلب مدرّب على أكل لحوم "الإرهابيين" إلاّ ما كان من العمل الذي قدّمه. وملكان يسألانه عن الربّ هل وُحِّدَ وعن الرّسول هل اتُّبِعَ وعن الكتاب هل طُبّق، واللسان في ذلك لا ينطق إلاّ بما يُسِّر له. وضمّة قبر لا يسلم منها كبير ولا صغير ولا غنيّ ولا فقير ولا رئيس ولا وزير. ونافذة في القبر لا يدري صاحبه أتُفتح له على الجنّة فيسعد، أم على نار جهنّم فيشقى ويُنَكّد (نعوذ بالله من عذاب القبر). وصراط أرقّ من الشعرة وأحدّ من السيف لا يثبت عليه إلاّ من عرف قدر نفسه فأوقفها عند الحدود وألزمها طاعة ربّه. وشمس تدنو من الرؤوس حتّى يذهب عرق النّاس في الأرض سبعين ذراعا ويلجمهم حتّى يبلغ آذانهم. وظلّ لا يتظلّل به إلاّ من سبقت له رحمة الله أو عُدّ من أولئك السبع المبشّرين ومنهم إمام عادل. ووقوف بين يدي مَنْ بيده الملك، صاحب الأمر الواحد القهّار. وكتاب لا يدري صاحبه أين هو واقع، أبِاليَمِين فالعيشة راضية أم بالشّمال فالأمّ هاوية. وجنّة أعدّت للمتّقين ونار أعدّت للكافرين والمنافقين والمتكبّرين والقاطعين والظالمين والكاذبين.
ثمّ سرعان ما أخذت العربة المخصّصة الجثمان، وسارع المضيّف إلى الاعتناء بالأحياء بعدما أدّى واجب الموتى، فقطع بذلك عن رئيسنا تلك السياحة المفيدة (أحسب) التي وفّرها له ذكر هاذم اللذّات. ورحل عرفات إلى قبره وعاد الرّئيس إلى قصره وهو لا يدري أنّ الجميع بانتظار ما ستسفر عنه تلك الوقفة مع الواعظ البليغ، فقد ذهب البعض منّا إلى تصوّر سيناريوهات قد تصل إلى حدّ ردّ المظالم والاعتذار لدى المظلومين من قومنا عمّا لحقهم من أذى وتقتيل وتشريد لا يرتكب ذرّة منه إلاّ مَنْ كان مِنْ أصحاب الأهواء والمعاصي والبدع إذ "لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به" وحديث الساسة عن العفو التشريعي العام وعن ضرورة إشاعة أجواء الديمقراطيّة التي قد لا تكون مكتملة عند بعضهم إلاّ بتغييب الإسلاميين عن أنظارها... غير أنّ التقدّم في السنّ قد يُفقد البعضَ حُسنَ الذاكرة، فقد نسي الرئيس للأسف بمجرّد الاستواء على كرسيّه هناك بقرطاج كلّ تلك المُناكدة التي سبّبها له أبو عمّار، هذا الذي لم "يحسن" حتّى اختيار وقت اختفائه عن الأنظار، وعزم على مواصلة دربه الذي خطّه بمناصرة "التونسيين، كلّ التونسيين" (94,48 %)، فلا مكان للإسلاميين بالبلاد خاصّة إذا كانوا من هذا الصنف (تصالحت حكومة الجزائر مع من رفع السلاح ضدّها، وعفا النظام المصري عن أكثر من سبعمائة من المتشدّدين الإسلاميين... فكأنّ مشكلة الإسلاميين في تونس إذن هي عدم التشدّد وعدم رفع السلاح، ولذلك فإنّهم لم يجدوا وقد لن يجدوا الآذان الصاغية! مذهل والله!..)، وبيّن أنّه لا يوجد لديه في سجونه أيّ سجين سياسي بقوله "إني أشير بكل وضوح إلى أنّه ليس لدينا سجناء رأي أو سجناء سياسيون"، وذلك في الوقت الذي تنادي فيه كلّ المنظّمات الحقوقية والإنسانيّة - على علاّت فيها - بوجود أكثر من خمسمائة سجين سياسي، وفي الوقت الذي يقول فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم "أربع من كنّ فيه كان منافقا، وإن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر"...
ثمّ ما هذا الخوف من الاعتراف بوجود سياسيين بالسجون وقد علمت الدنيا بأسرها بوجودهم فيها؟! ألِخَوْفِ ظلّ يلازم الرئيس منذ سمح لنفسه بالتعدّي على مبادئ السياسة والسياسيين يوم تجاوز حدودها فانقلب على قائده الأعلى وليّ نعمته؟! وما هي التهم المتعلّقة بالحقّ العام التي نالت الدكتور الصّادق شورو مثلا؟! أهيّ شيكات بدون رصيد أم هي تَعَدٍّ على الأخلاق الحميدة أم هي خيانة مؤتمن وتصرّف أخرق في الممتلكات العامّة أم هي اغتصاب أم هي تعاطي مخدّرات أم هي كلّها جميعا؟! وما تهم حمَلةِ القرآن وحملة الشهادات العليا ممّن بطّأ بهم الانتساب إلى العائلة الرّئاسيّة أو إلى الأسرة التجمّعية؟! ثمّ ما ذنب أبنائهم وعائلاتهم، ولماذا يعاقبون؟! ألأنّهم تستّروا على الجريمة المرتكبة من ذويهم؟! أم لمجرّد تحوّط ضروري خشية تسرّب العدوى إليهم؟! أم لتطبيق ما جاء بالفصل (13) من الدستور "العقوبة شخصية ولا تكون إلا بمقتضى نص قانوني سابق الوضع".
وعندما يتكلّم الرئيس عن العمل السياسي الحرّ بقوله "العمل السياسي حر ينظمه الدستور الذي يمنع قيام أي حزب على أساس الدين أو العرق أو اللغة. إنها ثوابت نظامنا الجمهوري ومبادئ العمل الوطني السليم" ألا يتحرّج من ذلك، وهو يعلم علم اليقين أنّ هذا الدستور قد تلاعبت به الأيدي لتجعله شاهدا على قتل المبادئ ومشرّعا للرّئاسة مدى الحياة ومجيزا للكذب الذي لا يأتيه مؤمن؟!.. ثمّ أين حريّة الفكر والتعبير وتأسيس الجمعيات التي ضمنها الفصل الثامن من الدستور؟! أم أنّ الممارسة قد عُلمت سابقا بأنّها ستكون مخالفة لما يضبطه القانون (ولعلّي أعود يوما فتكون لي وقفة مع هذه الجملة الخبيثة التي لا يكاد يخلو فصل من ذكرها "حسبما يضبطه القانون")؟!...
قلت عاد الرئيس إذن من جوار قبر عرفات رحمه الله، ليتفرّغ لعمله بعيدا عن أجواء السواد وذكر الموت دون زهد في دنيا أو رغبة في آخرة ليُقسم أمام الأعضاء الجدد "الممثّلين" لشُعبهم - تطبيقا للفصل (38) من الدستور القاضي بإسلام رئيس الدولة – بما نصّه:"أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة ترابه وأن أحترم دستور البلاد وتشريعها وأن أرعى مصالح الأمة رعاية كاملة".فهل سيحترم دستورالبلاد وهل سيرعى مصالح الأمّة بصفة كاملة أو جزئية؟!... قد لا أكون هذه المرّة مع المتفائلين، حيث لا أنتظر من الرجل إلاّ ما مكّنه منه فهمه للنصّ وما أعانه عليه قومه ممّن نقم على الحريّة ومنشديها... ولكنّي لا أزال وسأظلّ أؤمن بأنّ الله غالب على أمره، وكفى بالموت واعظا...