معنى الشريعة الإسلامية عبد الحليم قنديل العودة لتطبيق 'الشريعة القانونية' جانب مكمل للاستقلال عن الآخر الغربي، فقد فرض علينا الأخذ بالتشريع الغربي مع الغزو الاستعماري، وليس في الأخذ بشريعة الإسلام القانونية ما يجرح مشاعر العرب غير المسلمين، أو يخل بمبدأ المساواة، وليس في الأمر إكراه، ولا فرض دين على غير المتدينين به، ولا إخلال بمبدأ حرية العقائد وهو مبدأ إسلامي مصون، فالشريعة القانونية ملك لأمتنا جميعها على اختلاف الأديان، والنظام القانوني المستمد من الشريعة يجسد عبقرية أمتنا في القانون، والعرب والمسيحيون أولى بقانون الشافعي من 'قانون نابليون غير الديني'، إنها صيغة الإسلام الحضاري التي يرث تاريخها المسلمون والمسيحيون معا، يقول المطران اللبناني جورج خضر 'حضارة أوروبا هي حضارة الأوروبيين، وأنا لم أساهم فيها، إنها في أفضل حال العروس، ولكني لست أباها، قد أتذوق أوروبا ولكني لا أكونها، وإذا استهلكت ما تنتج فهي لا تفتخر بذلك، وقد أفتخر، إنما هي تفخر بما تنتج، وهذا ثمر اجتهادها هي، غير أني على هذه الأرض ابن الحضارات التي توالت عليها منذ فجر التاريخ، وورثتها جميعا الحضارة العربية الإسلامية، وأنا في قلب هذه الحضارة منذ بزوغها ورافقتها، وفي القرون الأخيرة علمتها'. ولو كان لدى المسيحية شريعة قانونية تقابل شريعة الإسلام لجاز الاعتراض دفاعا عن مبدأ المساواة، لكن الحقيقة أنه لا يوجد شيء من ذلك، فالمسيح كما يقول الأب القبطي متى المسكين لم يهتم أبدا بتشريع قوانين مدنية، ولم يجمع قط، ولم يخلط أبدا، بين مملكة الله ومملكة هذا الدهر، وقد رفض ملك الأرض، وأن محاولة الكنيسة الاهتمام بالأمور الزمنية باسم المسيح هو بمثابة تنصيب المسيح ملكا على الأرض . لكن التساؤل يبقى عن مدلول هذه الشريعة القانونية ومزاياها وحدود تناقضها مع الوضع القانوني القائم؟ لابد أولا من التمييز بين 'المقدس' و'الوضعي'، أو بين 'الشريعة' و'الفقه' بمعنى آخر، فالشريعة كما يقول د . محمد عمارة ' دين وليست دنيا، ثوابت وليست متغيرات، ومصدرها الوحي لا الرأي والاجتهاد، والفقه الإسلامي في المعاملات هو ما نعنيه الآن عندما نتحدث عن القوانين الإسلامية، وموضوع الفقه الإسلامي متميز تماما في الطبيعة والمجال عن الشريعة الإسلامية، وعلى حين رأينا علماء الإسلام ينبهون على أن الشريعة وضع إلهي، وجدناهم ينبهون على أن الفقه ليس كذلك، إذ هو كما يقول الجرجاني 'علم مستنبط بالرأي والاجتهاد يحتاج إلى النظر والتأمل' . ومن ثم يجب أن لا يخلط معنى الشريعة مع معنى الفقه الوضعي العقلي غير الملزم دينيا، وتلك التفرقة واجبة حتى لا تختلط الأوراق، وأصول الشريعة هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس، والإمام أبو حامد الغزالي يستبدل العقل بالقياس في جعله من أصول الشريعة، فالقياس هو نوع من الاجتهاد، والإجماع هو الآخر ليس بمنأى عن سلطان الاجتهاد، والسبب: إن الإجماع الثابت يستلزم الإجماع النطقي بين الفقهاء لا الإجماع السكوتي المختلف فيه، وهذا الإجماع الثابت لا يشمل سوى مسائل محصورة من الفقه لا يمنع استمرار ثباتها قدرة الشريعة على التطور مع اختلافات الزمان والمكان والظروف، والإجماع ينسخ مع تبدل المصلحة، ولا يبقى ثابتا سوى النص القرآني قطعي الدلالة والسنة المتواترة قطعية الورود قطعية الدلالة، وتلك الأخيرة لا تشمل سوى عدد محدد من الأحاديث النبوية . وفي مجمل النص القرآني، فإن مئتي آية فقط تتضمن أحكاما تشريعية، والمقصود هنا ليس أحكام العبادات بل أحكام المعاملات، ومنها أحكام الأحوال الشخصية كشؤون الزواج والطلاق والمواريث والوصية، ومنها أحكام الجنايات والحدود وهي أربعة: حد السرقة (وهو قطع اليد)، حد القذف (وهو الجلد ثمانين جلدة)، وحد الزنا (وهو الجلد مائة جلدة)، وحد الحرابة (وهو القتل والصلب أو النفي من الأرض)، وأضيف لها حدان: هما حد الردة المتجادل في سنده ووجوبه، وعقوبة شارب الخمر وهي 'تعزيرية' استخرجها الإمام علي بن أبي طالب قياسا على حد القذف، أما في المسائل المدنية فلم يتضمن القرآن سوى آية واحدة هي 'وأحل الله البيع وحرم الربا'، وهي التي يدور بشأنها جدال فقهي شديد حول فوائد البنوك في عصرنا، وثمة نصوص قرآنية أخرى ذات طابع تشريعي مثل الآية 'يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى'، وأحكام الحدود في الشريعة تثير الجدل، فتطبيقها ملزم بالنص القرآني، لكن الممارسة والاجتهادات الفقهية وضعت شروطا لتطبيقها، فحد السرقة مثلا لا يطبق إلا إذا أخذ المسروق من حرز، أو أن يكون المسروق مالا متقوما، وألا تكون للسارق حاجة إليه وألا تكون فيه 'شبهة ملك'، أي أنه لا حد على من يسرق من أموال الدولة مثلا لأن له فيها شبهة ملك، واتفق جمهرة الفقهاء القدامى على أن حد السرقة لا يطبق في الخطف والنهب والاختلاس، وفيما يتعلق بالزنا فقد اشترط الفقهاء لإثبات الجريمة شهادة أربعة شهود عدول يرون الفعل رأى العين من أوله إلى منتهاه، وبحيث لا يمر الخيط بين الرجل والمرأة، وتلك شروط يستحيل توافرها في أغلب حالات الزنا . ومع الاتفاق على مبدأ تطبيق 'الشريعة القانونية' فلا بد من مراعاة أربعة اعتبارات أولها: إن الأصل هو التسليم بالنص القطعي مع الإيمان بالعقل والتطور، وقد تطورت الحياة الاجتماعية للمسلمين وغيرهم كثيرا منذ تم إغلاق باب الاجتهاد قبل عشرة قرون، وجدت جرائم بلا حصر، ولم تتطرق إليها بالطبيعة كتب الفقه المتداولة ومذاهبه الكبرى، وثمة قاعدة في النظام العقابي للإسلام هي قاعدة (التعزير) تتيح لولاة الأمور تأثيم أي فعل يرون فيه إخلالا بالأمن وتقرير عقوباته الملائمة، وغلق باب الاجتهاد يجعل الجمود النصي والمذهبية الضيقة يطغيان على ما عداهما، ومن ثم وجب فتح باب الاجتهاد من جديد، وقد وضع القدماء شروطين للمجتهد: أولهما: العلم بقواعد اللغة العربية، وثانيهما: العلم بأسباب النزول حتى يمكن للمجتهد تمييز وفهم الأصول، ونحسب أنه لا بد من إضافة شرط ثالث هو الوعي بمصالح الأمة والانتساب إلى أغلبية الشعب، فحيث توجد المصلحة العامة فثم شرع الله، وبديهي أن المجتهدين الجدد من القضاة وعلماء الدين لن يكونوا أصحاب مذاهب فقهية جديدة، بل هم خبراء يدور عملهم في نطاق السلطة المدنية التي هي الأصل في الاسلام. شرط تمتعها بالتأييد الشعبي . ثانيها: أن تطبيق الشريعة القانونية لن ينسخ على الفور نظامنا القانوني القائم، فلابد من التدرج من جهة، ولابد من إعداد أجيال متمرسة بالتفقه في الشريعة، ولابد من الوعي بالتحول الذي جرى لأنساق من البناء القانوني الغربي في بلادنا، فقد تطورت في مصر مدرسة فقه قانوني على مدار قرن ويزيد منذ فرض 'كود نابليون' سنة 1883، ودخلت كثير من قواعد الفقه الاسلامي في بنائنا القانوني العام، فهناك التشريع المدني الذي صدر في مصر عام 1948 واستغرق إعداده أكثر من عشرين سنة، وتضمنت مذكرته الإيضاحية: 'تأصيلا لكثير من القواعد في فقه الشريعة الاسلامية'، ثم إن جميع الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية بقيت مأخوذة نصا من القرآن الكريم والسنة النبوية والمبادئ المشتركة بين مذاهب الفقه الكبرى، ومعنى ذلك كله: أن نقطة البداية هي تنقية القوانين القائمة مما يخالف الشريعة، وأحسب أن تلك النقطة صار مسلما بها لدى أغلب اتجاهات النخبة وأغلب الجمهور . ثالثها: ان الميزة الكبرى في قضية العودة إلى الشريعة، فوق الاتساق مع ديننا الخالق لوجودنا القومي العربي والمميز لخصائصنا الحضارية، ان قوانين الشرع الإسلامي تتناقض في جوهر نظريتها الحاكمة مع قانون نابليون الذي فرض علينا تطبيقه، فقانون نابليون يعرف الحق إقرارا به (الحق في الحرية، الحق في المساواة، الحق في التملك.. إلخ)، سواء توافر لصاحبه كما يقول د. عصمت سيف الدولة مضمون الحق فعليا أم لا، أما الشرع الإسلامي فلا يعرف الحق إلا على مضمون عيني يمارسه صاحبه فعليا، وقانون نابليون يطلق تملك الأرض بدون حدود، والشرع الاسلامي يقصر ملكية الأرض على الانتفاع دون الرقبة، وقانون نابليون يطلق حرية استخدام الحقوق بدون قيود ولو أتلفها الاستعمال، أما في الشرع الاسلامي فاستخدام الحقوق ليس مطلقا وتقيده مصالح المجتمع، وقانون نابليون يحمل مرتكب الفعل الضار أي الفاعل المباشر وحده مسؤولية تعويض المضرور، أما الشرع الاسلامي فيحمل الفاعل غير المباشر (المتسبب في الضرر) مسؤولية التعويض مع الفاعل المباشر وفي بعض الحالات دونه، وقانون نابليون لا يحمي المغفلين، أما الشرع الاسلامي فيحمي ذا الغفلة المغبون أو ضحية الغش والتدليس، وقانون نابليون يجيز الربا والاسلام يحرمه . رابعها: ان الشريعة القانونية لا تؤتي ثمارها المرجوة لو طبقت في عزلة عن كافة جوانب البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إنها بذلك تفقد شروط تطبيقها من الأصل، وقد أوقف سيدنا عمر مثلا تنفيذ حد السرقة في عام الرمادة، فاتفق بذلك مع صحيح الاسلام، والسرقة من مال الدولة مثلا توجب تطبيق الحد وربما التزيد فيه أكثر من سرقة الأفراد، وتوفير كامل حقوق الانسان يتيح أفضل مناخ لتطبيق الشريعة، والعدل في التوزيع وتوفير حد الكفاية الانتاجية لكل مواطن يحاصر الجريمة من منابعها، وكل ذلك لا يتحقق بغير مناخ نهضة شامل يزيح السراب الثقافي، ويكشف كما يقول د. أنور عبد المالك ذلك الوهم المتأصل في عقول وقلوب العديد من المثقفين العرب، والزاعم أنه لا جودة إلا في الغرب، ولا تطور إلا بالسير في دروب الغرب، (إنهم في الواقع عملاء حضاريون للغرب) على حد تعبير عبدالملك. ' كاتب مصري [email protected] alquds30-8-2010