إذا كان لا يمكن الجزم بمكان ميلاد النكتة وزمانها فإنّه بإمكاننا القول ترجيحا أنّ النكتة انطلقت في إطار الترفيه والسمر وانتعشت في القصور وكانت سلم الحاشية إلى الملوك والأمراء ثم تطوّرت لتصبح متنفسا لضغوط اقتصادية وسياسية واجتماعية ومن ثمّ شكّلت لبنة لما نطلق عليه اليوم بالأعمال الكوميدية، كما أنّه لن يُفقد أثرها إذا طلبت والتمست في طيات الأدب الساخر.
ولدت النكتة لتصنع الابتسامة لكنّها لمّا طال عليها الأمد صنعت المأساة، فزجت بأصحابها في السجون وأوردتهم العذاب وجرّعتهم الموت.. ضحايا النكت كُثر عبر التاريخ لعلّ أبرزهم أولئك الذين تجرؤوا على الزعيم النازي أدولف هتلر واستهدفوه بنكاتهم فاستهدف رقابهم، لقد حصد امبراطور الرايخ الثالث امرأة برصاصه حين ألقت هذه النكتة: "إنّ هتلر وغورنغ صعدا إلى أعلى برج راديو برلين الشامخ فوق العاصمة الألمانية. نظر هتلر من عليائه إلى المدينة تحته فقال متسائلا: «آه، يا ليتني أعرف ماذا أستطيع من خدمة أخرى أقدمها للشعب الألماني؟» فأجابه غورنغ: «اقفز من قمة هذا البرج"، وحصد قبلها وبعدها الكثير..
النكت مجردة كانت أو محوّلة إلى "سكاتشات" وأعمال مسرحية ونصوص ساخرة وفرت للكثير من منتجيها العرب -نخبة وعوام - أماكن خلف القضبان وقدمت جلودا آدمية للعصي والسياط وفنونا أخرى من العذابيعرفها الجلاد...
كما في كل المجتمعات ولدت النكتة التونسية ونمت بين الفرح والأسى، الظلم والكبت، السمر والسخرية... وكانت المكوّن الأساسي لصناعة الضحك، كما كانت زفرات للمغلوبين على أمرهم وملاذا للعاجزين على ردّ الفعل.
قبل أن نقترب أكثر من قوس وسهم وهدف نكتة التوانسة لا بدّ من الإشارة إلى ظاهرة انتشرت عند بعض الشعوب تمثلت في التندر بجهة أو تجمّع أو حتى مجموعات ينتمون إلى نفس الوطن.. لكنّها غابت تماما أو كادت عند التونسيين، حيث لم تكن هناك جهة وقع التركيز عليها وتمركزت حولها النكتة ما عدا بعض نكت التقشف التي استهدفت جهات معينة لكنّها لم ترتقِ إلى مستوى الظاهرة، صحيح أنّ منطقة الجريد عرفت بإنتاج النكت.. لكن لم يكن سكّانها مستهدفين بل كانوا المموّل الرئيسي لسوق الضحك في تونس، بخلاف هذا وفي مصر على سبيل المثال كثيرا ما استهدفت النكت والطرائف الصعايدة: "صعيدي واقف مع دوده في الشمس ليه؟؟؟؟ الطبيب قال له أعد في الشمس دقائق مع...دوده"، وفي الجزائر قذائف النكت صوبت تجاه سكان معسكر: "مرة معسكري مع يماه. قالتلو نروحو لوهران. قالها بصح ناس وهران مايحبوناش ويتمسخروا بينا. قالتلو معليش النهار الاول يتمسخرو. والنهار الثاني ينساو شوية. والنهار الثالث ينساو قع. قالها امالا نروحو النهار الثالث...".
أمّا في سوريا فالحمصيون أكثر من يفتح شهية السوريين: "أكد المسؤول الأول عن حمص في خطاب رسمي وجهه لبوش محذرا بأنّ أي اعتداء على سوريا يعتبر اعتداء على حمص..."، والليبيون وجهتهم ترهونة حيث يحلو التندر وتفيض القريحة تجاه التراهنة: "مره فيه واحد ترهوني مسافر بالحافلة... قاله اللي قاعد جنبه: انا بردان من الشباك، رد عليه الترهوني: تشرفنا وانا خليفة من ترهونة..."... كذا شأن الفلسطينيين مع الخلايلة: "خليلي بليلة عرسه مو ملاقي شي يحكي فيه قال لعروسته: أهلك بيعرفوا انك عندي؟"، والخليجيون مع البدو: "بدوية تزوجت.. تبغي تفرح زوجها من اول ليلة.. قالت له انا حامل!!"، واليمنيون مع الحضارمة: "حضرمي قال لزوجته صرِّفي العيال... قالت: اللي ينام أعطيه ريال.. نام هو أول واحد"...أمّا عند الأردنيين فإنّ النكتة قد يممت شطر الطفايلة: "طفيلي دعا ربّه 15 سنة إنو يرزقو بولد، آخر شي أجاه صوت بالمنام بيقوله ولك اتجوز..."
في السابق كانت النكت في تونس متجانسة مع المناخ العائلي صديقة حميمة للأسرة متدفقة يحكمها التوازن حيث بمقدورك الحصول على مبتغاك في جميع المحاور لأنّ صناعة الضحك كانت تحت سيطرة الطبقة الوسطى بما تحتويه من قيم واحترام لثقافة وأخلاق وثوابت المجتمع، أمّا اليوم وبعد تفكك هذه الطبقة واختفائها جنحت النكتة إلى حالات من الشذوذ وسكنتها ألفاظ العنف الجنسي الفاحش والكلمات العنيفة الحادّة بحيث لا يمكنك الإتيان على جميع أنواع النكت لأنّ الكثير منها مسكون بهاجس الغريزة والجنس والابتذال ولأنّ لسان الحال لا يحتمل طرائف منزوعة الحياء والخجل، حتى أنّه لا يمكننا ونحن نسوق نكت معينة إلاّ النزول إلى مستوى الدرجة الثالثة أو الرابعة لنتجنب صدمة الكلمات والإيحاءات بل التصريحات الشنيعة وبالكاد نصل إلى طرائف تفي بالغرض ولا تصدم القرّاء ولعل النكت التالية هي أخف خفيفها: "قلك فما واحد مرماجي مزمّر تعدت قدامو وحدة حلوة تتكيّف... قال ليها ياريتني سيقارووو في فمك... قالتلو: مانتكيفش الحلوزي" ثم الأخرى: "أولاد خطفوا عزوزة وبنية البنية تصرخ تقول نزّلونا..نزّلونا.. والعزوزة تقول كل واحد يتكلم على روحو"وهناك من يستغني عن الكلمات الحادّة بتركيزه على الفكرة وطرافتها: "واحد هزّ عزوزة للعساس متاع الجامعة (faculté) وقالو صرفهالي بنات"
من خلال المتابعة لتدفق النكت في الشارع التونسي يمكن وبسهولة ودون عناء الربط بين الانحلال الأخلاقي والحرية الجنسية منزوعة الضوابط وبين جنوح النكت إلى حالة من الفحش الهستيري، والأخطر أنّ الفراغ التربوي والخطاب الديني المترهل الذي اعتمدته السلطة ولّد جيلا لا يتورع من التندر بالرسل والملائكة وحتى ربّ العزة ويصل الأمر إلى منتهاه حين تجمع النكتة بين المقدّس والجنسي!!! في استخفاف واستهتار بثوابت المجتمع وكردة فعل للفشل الذريع في ردّ سطوة الجاني الحقيقي....
و إذا ما سقنا أمثالا صريحة عن ذلك، وجدنا أنفسنا بصدد نقل كفر بواح وتعدي صارخ على حرمة المقدسات، ولكي يستوفي البحث غرضه يستوجب التنقيب بحذر مفرط عن طرفة مدارها الدين: "واحد تونسي سأل صاحبو الغبي: بالله تعرفش آخر جمعة صليناها وقتاش قالو ما تلزنيش للكذب ما نقدرش نقلك بالضبط يا الثلاث يا لربعا إللي فاتت "...في نفس السياق، ولكن بدلالات أكبر وأعمق تتنزل النكتة التالية: "واحد ما يعرفش حتى شئ من القرآن ولا الدعاء وهو ماشي في الليل في بلاد خالية خرجتلو عبيثة ما لقا ما يقول ماهو حافظ شيء تسمّر في بلاصتو وبدا يقول ....أقبل البدر علينا من ثنيات الوداع... ".
لم تعدّ الكلمات الجنسية الخفيفة تغذي الرغبة الجامحة في الابتذال وتحت إلحاح الإشباع واستجابة لحالة التمرد الخطيرة على الأخلاق ولدت وتداولت في الشوارع والمرافق العامة نكت شاذة محورها المثلية الجنسية وما يدور في فلكها.
غير أنّ الشارع لا يخلو من النكت الجادّة التي تجمع بين الضحك والإفادة والمتابعة المنتبهة للأحداث: "فماواحد مشا لكيوسك باش يصب ليسانس في الموتور.. بعد ماعبا عطا خبزة للبومبيست .. قالوشنوا هذا؟ قالو تي ماو النفط مقابل الغذاء "...من النكت التي سلمت تماما من الابتذال وحصل الإجماع عليها بين المثقف والأمّيّ المبتذل والملتزم على أنّها مناطق محرمة تحمل الحصانة التامة ضدّ الفحش والتجريح هي تلك النكت التي تتندر بالأم!! فداعبت لكنّها لم تتعدى هيبة هذا المخلوق الذي كرّمه الله وجعل الجنة تحت أقدامه: "واحد طلب من أمو تدعيلو قالتلو روح يا ولدي ربي يعطيك دار بلا كرا.. وماكلا بلا شرا... لقا روحو في الحبس"
تحتل النكت التي مدارها الخمر والمواد المخدّرة حيّزا كبيرا لعلّها تأتي مباشرة بعد النكت ذات الإيحاءات الجنسية والكلام الفاحش: "مره واحد سإل سكران قلو شفت الكتيبة علي الحيط قلو أي شفتها اما مشفتش الحيط "... "مره واحد سكران قابل واحد قالو قداش الوقت..؟ قالو خمسه وخمسه... قلو ياخي شبيك سكران!! ماتعرفش تقول توّه العشره"... إذا اجتمع الخمر والفراغ لا بد للنكت أن تتوالد تباعا: "ثما ذبانة طاحت في دبوزة شراب, خرجت تصيح وتعيط: وسع خلي النسر يتعدّى "..."طفل يسأل في بوه: بابا كيفاش نفيقو بواحد سكران..؟ جاوبو بوه: ولدي شفتهم الشجرتين إلّي وراك؟؟ السكران يشوفهم 4 شجرات!تلفت الطفل ما يلقى كان شجرة وحدا".
بما أنّ الخمر وجدت لها مواد أخرى تزاحمها وتبتزها في حرفائها مثل الحشيش والغبرة والفاليوم... فالأكيد أنّ هذه المواد المخدرة بدورها قد تناوشتها النكت "فما واحد غبّار مشى يخطب في طفلة سألوه اهل الطفلة: اش تخدم..قالهم: فنّي تكيييييف".
في حقبة السبعينات والثمانينات كان يدور حول المدرسة والمعلم والتلميذ كمّ هائل من الطرائف وكانت القرائح تتفنّن في ابتكارها وسردها وأذكر أنّه لم يكن هناك حرج في تناولها، فقد كانت ذكية ومضحكة لكنها خالية من الإسفاف، أمّا اليوم فبالكاد تعثر على طرفة تصلح للنشر في هذا المجال!! "تلميذ دخل للقسم متأخر ومن غير ما دقّ الباب.. قالو الأستاذ: كوري؟؟ جاوبو التلميذ: لا .لا سيدي تونسي"
النكتة السياسية هي الوسيلة التي يمكن أن تجسّ بها حراك الشارع وعلاقته البينية وتستنتج طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأنت تلتمسها عند هذا وذاك كثيرا ما يتكشف لك حجم التدهور الخطير لسقف الحريات، فعندما تطلب نكتة عبر الهاتف من أحدهم ويجيبك "اشنوة تحبني نتنحى" تصيبك الحيرة ويتملكك الغثيان وأنت تستمع إلى معلم تربية بدنية ومدير مدرسة وحارس غابات وهو يستشعر يقينا أنّ نكتة سياسية "سمينة" يمكن أن يكون ثمنها وظيفته ومصدر رزقه إلى جانب المرور على مقرّات أمن أعدّت لهذا الغرض وأغراضا أخرى...
غالبا ما تكون هذه النكت ردود فعل على الكبت والقهر، فقساوة النظام وبطشه تولّد نكتا بألفاظ مقززة وكلمات وأفكار غليظة موغلة في التشفي: "قالك مرة عصابة خطفت الرئيس وقالو إذا كان ما تعطوناش خمسة مليارات حتى للعشية نهزوه للساحة العامة نصبوا عليه المحروقات ونحرقوه... ثمّة زوز رجال في الكيّاس حبسوا تكسيست قالولو خوي قاعدين نجمعوا في التبرعات للرئيس... تتبرع راهو الرئيس شادينوا ومهدين بحرقانو... قاللهم وانتوما تبرعتوا قالو واحد اي نعم أنا تبرعت بسيتيرنا مازوت وصاحبي بسيتيرنا ايسونس قاللهم عندي كان هالتكسي خليني نمشي نقبلها ونجيبلكم سيتيرنا كيروزين!!"
تحركت النكتة يمينا ويسارا وطرقت مختلف الأبواب إلى درجة يصعب معها رصد كل المحاور فقد أتت على الفرح والحزن، الموت والأمل، الضعف والمرض والسفر، الغنى والفقر والظلم ولم تسلم الأعياد ولا حتى الخرفان"فما جماعة شرو علوش قبل العيد ب 6 أشهر بقو يوكّلو ويشرّبو فيه حتى لين ستانسو بيه... نهار لعيد يلقوه يبكي ويقول: الحومة الكل خذاو علالش للعيد كان احنا"
نكت أخرى قصيرة وموجزة إذا طُلبتْ من أحدهم قيل له "أعطينا وحدة على السريع" نجملها في باقة نسوقها في هذا المبحث الذي يتطلب دراسة معمّقة لما يحمله من دلالات ومقاربات تعكس إلى حدّ كبير أسلوب حياة الناس وتفكيرهم وطموحهم وآمالهم
"أحول خذا عصفور أحول جا يحطو في القفص حطو لبرّة العصفور جا يهرب دخل للقفص"..."فما واحد اصلع خذا مرا فرطاسه جابو وليد عندوشعره سماوه خير من بلاش"..."ثم واحد قلبو سكت, هبط يدزّ"... "قالك واحد لقا دينار مقسوم على ثنين مشا لحمو بألفين"...
لا شك أنّ النفس البشرية في حاجة ملحّة إلى الترويح والترفيه ولا شك أنّ الشعوب التي ليس لها في ثقافة الضحك هي شعوب مملة قلقة متوترة، لكن أنّ تتحول النكتة من محطة استرخاء إلى رموز ساخرة نستعيض بها عن الفعل الجاد وأن تتحول من وسيلة ترفيه وتسلية إلى أداة تخدير وتمييع فهذا نذير خطر!!!
في عالم تسيّره المؤسسات ويحاكم فيه الرؤساء والوزراء على سندات بنك وقطعة أرض ووساطة على حساب المصلحة العامة وتحرش بسكرتيرة أو موظفة أو حتى راقصة أو بائعة هوى متمنعة في مثل هذا العالم الدقيق المضبوط بقوانين تفصيلية إلى حدّ الملل أكثر ما يطمح إليه التونسي أو العربي عامّة إلقاء نكتة في وجه سلطة غاشمة مستبدة ثم الخروج من تبعاتها بسلام.
في زمن عجيب أصبح الحاكم يملك فيه مفتاح البنك المركزي وخزائن الاحتياط الوطني من أحزمة العملة الصعبة وسبائك الذهب ويستنسخ بعض مفاتيح يفرقها على العشيرة والأقربين!! في زمن ينصّب الحاكم نفسه قانونا وضعيا وشرعيا يهين ويعذب ويسجن ويقتل متى وكيفما أراد.. في مثل هذا الزمن وإذا ما تثاقل هذا الحاكم وتغاضى عن نكتة سياسية عابرة صدرت في شكل زفرة من عاطل قديم، يصرخ تجار الذل وأرباب التزلف: "الله أكبر قفزة نوعية شهدتها حرية التعبير في بلادنا"، ويصبح هذا النائم على الجثث المُغَطى بأرصدة البلاد مصلح من طراز أول!!!
واعجبا لقوم يتملكهم الفرح إذا مدّ لهم مغتصبُ بيتِهم قطعة خبز وفردة جوارب وإناء، تهزهم الغبطة ويُكْبرون الحدث قائلين هذا التعقل بعينه وهذه سياسة التدرج في المطالب وهذه الحكمة والواقعية... بالصبر والمثابرة غدا يعطينا لص بيتنا فردة جواربنا الأخرى وقطعة جبن من برادنا ندسها في خبزنا.. ويملأ إناءنا ماءا.. غدا يلوّح لنا مغتصبنا بيده الشريفة من كوة بابنا!!! غدا يأتي الخير تباعا وتنصب لنا في الشارع الموازي لبيتنا القديم وبيت لصنا الجديد شاشة كبيرة نتمتع فيها بمشاهدة ابن مغتصبنا يلعب في أرجوحة أولادنا ويقطف أزهار حديقتنا... ولعله حين تعقلنا ولم نستفزه ولم نطالب جهار ببيتنا تكرم فأعطانا نطع جدي ومسبحته العتيقة وصورة أبي المعلقة في بهو بيتنا، ولعله حين يغير أثاث منزلنا أدركته رقة فرمى لنا بأثاثنا القديم عوضا عن رميه في المزبلة..
إذا كانت أغلب الأنظمة الدكتاتورية تضحك على شعوبها بإذلالها ونهب مقدراتها وقتلها جهارا نهارا فإنّ كثيرا من الشعوب المسكينة أوالمستكينة تضحك سرّا على أنظمتها "بسلاح" النكت!!! هذا يضحك سرّا على مأساته ويبيت طاويا وذاك يضحك علنا ملء شدقيه على شعبه ويبيت مثقلا بتخمته... فليت شعري من الضاحك ومن المضحوك عليه!!!.