سنة مرت على تحمل وزراء أفرزتهم إرادة الناخبين وحملتهم مسؤولية تحويل شعارات الثورة إلى واقع ملموس، فتوقعنا منهم عمليا الشروع الفوري في إصلاح الإدارة الموكول لها تجسيم البرامج التنموية الثورية من خلال إعادة تنظيمها وإصلاح أو حتى تغيير قوانينها وأنظمتها الأساسية وإعادة الاعتبار لمسؤوليها وموظفيها الذين تعرض غالبيتهم إلى هرسلة النظام السابق ومورس على قسم كبير منهم ضيم وحيف وتهميش وانتقائية على أساس الولاء والمحسوبية والوساطة وتحفيزهم على الانخراط في عملية الإصلاح العميق. وقت غير هين مر ولم يدق مسمار واحد في نعش إدارة النظام السابق. وزارة الشؤون الخارجية نموذج بارز على تنكر الحكومة لوعودها بمعالجة الأوضاع المادية والمعنوية للإطارات التائقة للتغيير والإصلاح وإحلال العدل وتحسين ظروف العمل لتحفيز الجهاز الإداري الحيوي في عملية الإصلاح. هذا لأن الوزير الذي عين على رأسها أظهر عجزا على النهوض بمستوى أداء وزارته بالإضافة إلى فشله الذريع في إعداد وزارته وحشد طاقاتها للاضطلاع بالمهام الجسيمة الموكولة للدبلوماسية في الظروف الصعبة التي عاشتها بلادنا ولازالت، نتيجة تفرده بالرأي بالإضافة إلى انزلاقه إلى أساليب التمعش وتحقيق المنافع الشخصية. قال الله تعالى: قلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" هذه الآية الكريمة هي أفضل ما يشخص تخبط "وزير النهضة للشؤون الخارجية" في نزعاته الحزبية وانغماسه في البحث عن الحظوة الشخصية والوجاهة السياسية والإعلامية أغشت بصيرته عن الطرق المؤدية لخدمة البلاد والصالح العام. فالوزير "الطائر" يعشق السفر ويعطيه الأولوية على رأس مشاغله في الوزارة حتى فاقت تكاليف رحلاته ومهماته بالخارج خلال النصف الأول من السنة الحالية الميزانية المخصصة لذلك بشكل أثر على قدرة الوزارة على مجابهة مصاريف تنقل بقية الموظفين في إطار مواكبة الاجتماعات والندوات ومتابعة التزامات بلادنا مع مختلف الأطراف والمنظمات الدولية حتى اضطرت الوزارة إلى اللجوء إلى نظام التسبيقات غير القانوني دون رقيب ولا حسيب. هذا بالإضافة إلى أن غيابه المستمر عن الوزارة عمق جهله بالواقع اليومي لتسيير ومتابعة الملفات وبالوضع المزري الذي تردت فيه ظروف العمل سواء على مستوى النقص الكبير في أدوات ووسائل العمل أو تهرأ المرافق لأنه يتعالى عن الخوض فيها أو الاهتمام بمعالجتها حتى أنه يفضل التواصل مع الإطارات السامية للوزارة من وراء حجاب يحفظ له وجاهته وصفاءه الروحي والذهني. لا يحترم الوزير الهياكل الرسمية للوزارة ويفضل العمل مع من جلبهم من خارج الوزارة رغم جهلهم بأبسط قواعد التعامل الدبلوماسي وبأتفه التفاصيل في إدارة العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف وفي تراتيب العمل وخصوصيات التواصل مع الأطراف الدبلوماسية. التسيير باعتماد هياكل موازية يستعين الوزير بمجموعة من المستشارين جلهم غرباء عن الوزارة أحدهم ملحق من المجلس الوطني التأسيسي يتولى مهام مستشار سياسي للوزير. ويترأس هذا الديوان الموازي شخص غريب عن الوزارة، ملحق من المركز الوطني للإعلامية، يعد في سلم التراتب الإداري الرجل الثاني في الوزارة ويفوق منصب مدير الديوان الذي تعاقب عليه في سنة واحدة ثلاثة مسؤولين لم يرق أي منهم لمزاج الوزير. ميزات هذا الرجل الأساسية أنه لا يفقه شيئا في العلاقات الدولية بالإضافة إلى انسداد جميع منافذ الفهم والاستيعاب لديه ولا يحسن التواصل مع محيطه حتى انه، ولتدعيم نفوذه بالوزارة، ضرب عزلة صارمة على الوزير منعت تواصله مع أقرب معاونيه ومع المسيرين الفعليين للمصالح الهامة بالوزارة والمهتمين بالملفات السياسية فيها . يدار هذا الديوان الموازي بشكل "سري" ويسعى للتفرد بالمعلومات وباتخاذ القرارات وبتعيين كبار الموظفين وبإسناد الملفات وتعيين السفراء كما يخططون من خلاله للحصول على منافع تتراوح من تسهيل السفر والحصول على التأشيرات إلى ربط العلاقات في مجال الأعمال والتكوين باستغلال نفاذهم للمعطيات حول المساعدات والبرامج الحكومية الرسمية كما يشاركون في "السفريات" ضمن وفد الوزير وفي الغالب على حساب الموظفين الدبلوماسيين المسؤولين الفعليين على الملفات ومتابعتها مع الجهات الخارجية المعنية. يطلقون العنان لأهوائهم إلى حد يتجرؤون على التفكير في إسناد أحد سفاراتنا بالبرازيل أو في الصين إلى أحد الإسلاميين الذي قضى أكثر من نصف عمره بالخارج، جزء كبير منها في البرازيل، ملاحق في قضايا إرهاب. ويتخصص هذا المستشار المريب في الاتصال بأوساط الأعمال في عدد من البلدان مثل الصين مستعينا بدبلوماسي تم انتدابه من قبل الوزارة بتدخل من "المنصف الطرابلسي" في إطار ملف فساد اداري بامتياز، وتتنزل هذه الزيارات في اطار تنمية مشاريع خاصة في الظاهر ولكنها في خدمة النهضة التي تسعى لتوسيع دائرة معارفها ومشاريعها. كل هذا والوزير يتحصن بمكتبه المغلق في وجه الجميع لا يتحاور ولا يتفاعل بل يحرك الخيوط من خلف ستار، يعين مستشارين من أبناء الوزارة لا يتشاور معهم إطلاقا، لا يستمع لطاقمه وكبار مسؤوليه في أدق الملفات وبخصوص تطور الملفات والعلاقات السياسية كما كانت التقاليد المعمول بها في الوزارة وبصفة دورية. ويعاب على الوزير أن أداءه لم يرتق إلى مستوى أداء رجال الدولة الوطنيين فسعى منذ وصوله للانفراد بسلطة القرار الإداري والسياسي فضيق مجال الاستشارة وعزز أسلوب التكتم على المعلومات في ضرب لمبدئ الشفافية وانسياب المعلومة. أسلوب زاد في تهميش طاقات وكفاءات الوزارة والأخطر من كل هذا هو أسلوب الابتزاز الذي تعامل به مع وضعيات عديد الموظفين والكفاءات حيث تغاضى على بعض أصحاب السوابق والملفات المشبوهة التي يسهل ابتزازها والحصول على ولائها مقابل تعمد إقصاء الكفاءات الشابة التي حان الوقت لتحمل المسؤولية والقادرة فعلا على تولي مهام الإصلاح وتطوير الدبلوماسية التونسية. وفي التعيينات الأخيرة لرؤساء البعثات الدبلوماسية دليل على أسلوب التعامل بمكاييل وموازين مختلة حيث تم التمديد في مهام بعض السفراء المتواجدين بالخارج ممن أعلنوا الولاء وانخرطوا عمليا في أحزاب الترويكا دون البعض الآخر بالرغم من تشابه الوضعيات الإدارية كما تم تعيين سفراء جدد قاربوا سن التقاعد رغم أنهم عابوا على سلفهم نفس الصنيع. تجربة الترويكا في تسيير الوزارة: تمترس حزبي وانعدام التواصل بين هياكل الوزارة بسبب الرغبة في توظيف الدبلوماسية لغايات فئوية وحزبية، تهيمن على العلاقة بين شركاء التسيير السياسي للوزارة تنافر تام وتناقض في الرؤى والمواقف بشكل خلق أجواء تنعدم فيها الثقة وتتكاثر فيها الإنفلاتات والزلات وتتواتر فيها الأخطاء الدبلوماسية التي من شأنها أن تمس من هيبة الدولة وتترك المجال لانتهاك سيادة قرارها. وقد وصل الاستهتار بقواعد التعامل مع الدبلوماسيين الأجانب إلى حد بات يهدد سمعة الوزارة والبلاد عموما حيث تتم بعض الاتصالات مع سفراء أجانب بصفة فردية في غياب تام للتشاور وفي كسر للقواعد المهنية التي تقتضي الإعداد وتنسيق المواقف وحضور الموظفين الدبلوماسيين المكلفين بالملف ومتابعته. كما نتج عن هذه التصرفات تناقض في المواقف المعلنة بشكل يمس من مصداقية الدبلوماسية التونسية ومن هيبة الدولة وأمنها الخارجي. والأمثلة على ذلك كثيرة خاصة مع ممثلي دول عظمى في تونس. تقييم هذه التجربة، خاصة في ظل تأزم العلاقة بين شركاء التسيير في الوزارة والصراع الذي أصبح يدور علنا وتنقل خفاياه وسائل الإعلام، يدفعنا للمناداة بضرورة إعادة النظر في أسلوب المحاصصة الحزبية لاقتسام المناصب السياسية في وزارة الشؤون الخارجية والتفكير في إسناد مناصب كتاب الدولة فيها إلى خبرات مستقلة عارفة بالشأن الدبلوماسي سواء من خبرات الوزارة أو من الكفاءات التونسية التي عملت بالمنظمات الدولية ولها تجربة في مجال العمل الدبلوماسي الميداني. عدد من الموظفين الدبلوماسيين التونسيين التائقين للإصلاح ولتحقيق العدل ومزيد النهوض بالدبلوماسية التونسية