كما هو معلن منذ فترة تنطلق اليوم 01 جوان 2020 تحركات احتجاجية في ساحة باردو بشكل رئيسي للمطالبة بإسقاط نظام الحكم ومساءلة منظومة الحكم الحالية. وبالمختصر المفيد ودون حذلقة يستهدف تحرك باردو إلى دحر حركة النهضة وتحييدها عن دواليب الدولة ومؤسساتها والقطع مع زمن "الإخوانجية". يأتي هذا تزامنا مع مطلب كتلة الحزب الدستوري الحر في سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي حيث تعتبر المطلب واجبا وطنيا سرعان ما تحول إلى مطلب شعبي على حد تعبير رئيس الكتلة عبير موسي خاصة مع تزايد أعداد الموقعين على عريضة سحب الثقة من الغنوشي التي قاربت المائة ألف توقيع. لسان حال الغنوشي يقول حتما "هي معركة ونحن لها"، وهي ليست المعركة الأولى التي يخوضها الرجل منذ عقود غير أن هذه المعركة لن تشبه بأي حال من الأحوال معاركه السابقة وذلك لاعتبارات عديدة أبرزها أن الرجل لم يعد ذلك الهدف المتحرك الذي كان عليه في الماضي بحيث يصعب قنصه أو إصابته حتى مجرد إصابة خفيفة. فالعمل السري الذي رسم سياسة جماعة الاتجاه الإسلامي والنهضة لاحقا كان يفرض حذرا شديدا وتوجسا كبيرا لم يعد متوفرا عند خروج حركة النهضة إلى النور لممارسة العمل السياسي بشكل علني، بل وأكثر من ذلك لتمسك بدواليب الحكم وهي التي لم تغادر سدة الحكم منذ انتخابات أكتوبر 2011 إلى اليوم. هذه الوضعية أعطت بعض الأريحية للحركة ولشيخها الذي لم يعد يحتاج إلى المناورة والضرب ثم الهرب بنفس القدر الذي كان في الماضي، فحصل ارتخاء هو أقرب إلى الاطمئنان. زد على ذلك المشاكل الداخلية للحزب التي تزداد كل يوم تعقيدا وهي في الحقيقة ليست بجديدة لكنها تفاقمت بفعل عاملين إثنين على الأقل: العامل الأول يتمثل في سن راشد الغنوشي الذي تجاوز الثمانين عاما ولم يعد ذلك الشاب القادر على المعافرة والمناورة وليّ الأذرع بل وحتى كسر العظم إن لزم الأمر. والعامل الثاني هو ميلاد شق مناوئ للغنوشي بات صوته عاليا ويرغب في أخذ سلطة القرار داخل الحزب لولا أن الغنوشي مازال إلى حد الآن يتحكم في أغلب موارد الحزب المالية. هذا الشق الذي يسعى إلى عزل الغنوشي عن رئاسة الحركة في المؤتمر القادم هو الذي لا يؤمن في غالبه بمبدأ فصل الدعوي عن السياسي الذي أعلن عنه الغنوشي. وهو نفس الشق الأكثر ارتباطا بالإخوان المسلمين والأكثر مناصرة "لإخوانهم" في العالم، وهي نقطة يشترك فيها مع الغنوشي مع اختلاف الآليات والأساليب المستخدمة. وهذه النقطة بالذات تحيلنا إلى الإكراهات التي يعاني منها الغنوشي على المستوى الإقليمي والدولي وهي في الحقيقة ناتجة عن خيارات الغنوشي نفسه. فارتباط النهضة بتنظيم الإخوان المسلمين هو الذي يفسر ارتباطها بالنظام القطري والنظام التركي اللذين دعما سياسيا وماليا وبقوة منذ 2011 صعود النهضة في إطار مشروع إقليمي على علاقة بالإسلام السياسي والحركات الإسلامية أحبطه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وهو ما يفسر إلى حد كبير "حقد" إخوان تونس على النظام المصري الراهن لأنه أطاح بإخوان مصر وأسقط حلم دولة الإخوان الكبرى التي كان مخططا لها أن تمتد من المغرب إلى غزة في فلسطينالمحتلة مرورا بالجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا... لذلك تصطف النهضة اليوم وراء المحور التركي القطري وتساند السراج في ليبيا وتعلن موقفها المعادي للجيش الوطني الليبي ولخليفة حفتر. ووسط هذه الدوامة من الضغوطات الداخلية والإقليمية وتراجع شعبية الحركات الإسلامية في عدد من الدول بسبب ضعف أدائها عندما وصلت إلى سدة الحكم على غرار ما حصل في تونس وفي مصر، يجد الغنوشي نفسه لاهثا وراء التموقع من جديد على المستوى الوطني خاصة بعد رحيل الباجي قائد السبسي وخلوّ الساحة من الزعماء ذوي الكاريزما والقيمة الاعتبارية، فكانت البوابة هي رئاسة البرلمان. وبالفعل كان للغنوشي ما أراد غير أن ما أراده كان أشبه بالمطبّ الذي أوقع الغنوشي نفسه فيه. فرئاسة البرلمان وأداؤه الذي خلط من خلاله بين صفته كرئيس حزب إسلامي وصفته كرئيس برلمان وطني لم يترك الأثر الطيب لدى المتابعين للشأن العام واستفز مناوئيه للتعجيل بطلب إقالته وتحييده عن قصر باردو. وكانت تلك عنوانا لخلاف يبدو أعمق بين راشد الغنوشي ورئيس الجمهورية قيس سعيّد من جهة، وبين الغنوشي ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ من جهة أخرى. يعني كأن الغنوشي حشر نفسه في الزاوية وترك وجهه دون حماية عرضة للكمات صادرة عن قرطاج وأخرى عن القصبة. لذلك ضاق هامش الحركة لدى الغنوشي المهدد بمغادرة منصب رئاسة الحزب ومغادرة منصب رئاسة البرلمان. منصبان أحدهما حزبي إيديولوجي والآخر وطني تشريعي جعلا من الغنوشي يراوح مكانه غير قادر على الحركة بينما ترتفع الأيادي في باردو ليرتفع معها شعار "ديقاج" الذي قد لا يتحقق فورا وبسهولة وذلك هو الأرجح، ولكنه سيُضعف كثيرا الشيخ الطاعن في السن حيث يبدو كل شيء يتحرك من حوله بينما يقف هو على حلبة ثابتة كالمصارع الذي ينتظر صعود الخصم على حلبة النزال. غير أن هذا الزمن لا تدار فيه كل المعارك على الحلبات ولا داخل مربعات النزال.