بعد مخاض عسير ضرب عرض الحائط شعارات الحملة الانتخابية، جمع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الاربعاء الفارط بصعوبة اصواتا مكنته من رئاسة البرلمان للخمس سنوات المقبلة. هذه العهدة لن تكون بالتأكيد كتلك التي ناب فيها عبد الفتاح مورو رفيق درب الغنوشي رئيس مجلس نواب الشعب السابق محمد الناصر. في مشهد يعيد الى الذاكرة بدايات تأسيس حركة الاتجاه الاسلامي بدايات سبعينات القرن الماضي او زمن الدعوة، ظهر الغنوشي "زعيم النهضة" بمعية رفيق درب النشأة الأولى للنهضة حاليا عبد الفتاح مورو في اعلى البرلمان. اكثر من اربعين سنة انقضت وبقي نفس المشهد تقريبا، قيادان تاريخيان لم تجر في عروقهما دماء جديدة، الاول يغادر نهائيا حاملا خيبة هزيمة الرئاسة والثاني يتوهم طريقا مثاليا يعتقد انه سيخرجه من الباب الكبير.
بالعودة الى البدايات، لم يكن قرار مجلس الشورى ترشيح الغنوشي لرئاسة المجلس مرتكزا على قاعدة صلبة اتفق بخصوصها كل الاعضاء، بل كانت محل اختلاف خاصة من قيادات تم اقصاؤها من طرف القيادة التنفيذية ايام اختيار رؤساء القائمات المترشحة للانتخابات التشريعية الأخيرة. علاوة على ذلك فان الحركة عموما كانت متخوفة من سقوط الغنوشي يوم التصويت نظرا لصعوبة الظفر باغلبية مع كتل أخرى أبدت وتبدي رفضا للتحالف مع الحركة وحتى التعامل معها.
اسبوع كامل من المشاورات المتواترة وحالة من "التاهب" والتجييش الاتصالي داخل حركة النهضة فقط لانجاح التنصيب وتفادي الاحراج. بدت اغلب القيادات الموالية "لشيخ النهضة" مستميتة ومتجندة لانجاح المعركة الرسمية الاخيرة للغنوشي صاحب ال 78 سنة.
ظفر الغنوشي برئاسة البرلمان باكراهات مرة وجدل عميق داخل الحركة التي وجدت نفسها مضطرة رغم وعودها الانتخابية للتحالف مع قلب تونس الذي طالما نعتته قيادات الحزب "بالفساد". وبدا واضحا انه لا ولن يحظى بقبول واسع داخل المجلس الذي يضم كتلا وازنة لا تخفي عدائها للحركة ورئيسها وخاصة كتلة الحزب الدستوري الحر.
شتات الاصوات القليلة التي تحصل عليها الغنوشي بعناء، اظهرته متصاغرا في نهاية العمر غير قادر بعد تجربة طويلة على جمع الفرقاء السياسيين على شخصه، وهو الذي كان مهندس "نجاح" الحركة في بسط نفوذها وانتشارها بمفاصل الدولة منذ انتخابات اكتوبر 2011 وتجاوز اصعب تحدياتها ومعاركها سواء ايام النشاط السري او بعده.
ورغم ان بحث الغنوشي عن مخرج لائق لتعظيم نهاية مسيرته السياسية شرعي خاصة اذا ربطه بمنصب رسمي كرئيس برلمان، الا انه سيبدد في السنوات الخمس التي سيقضيها في "منفاه" بالبرلمان الصورة التي رسخها منذ اكثر من اربعين سنة كونه "زعيما" متعففا عن المناصب يفضل البقاء خلف الاضواء للتوجيه والتفكير والكتابة وهو ما نجح فيه تقريبا.
مما لا شك فيه ان "شيخ النهضة" سيواجه طيلة السنوات الخمس المقبلة سجالات بالبرلمان كان من الممكن تفاديها لو تم ترشيح شخصية نهضوية اخرى تحظى بتوافق اوسع وبذلك ستتبخر سريعا صورة المفكر "الزعيم" حتى لدى الخارج الذي طالما فضل ويفضل نعت الغنوشي بالمفكر الاسلامي الابرز .
يحيل الخروج الصغير للغنوشي الى نهايات مشابهة لبعض القيادات التاريخية للحركة وخاصة حمادي الجبالي الذي ترك منصبه كرئيس حكومة مستقيلا ومؤخرا منهزما في سباق الانتخابات الرئاسية، هذا علاوة على عبد الفتاح مورو الذي غادر النهضة والحكم حاملا خيبة ثقيلة بعد الاستحقاق الرئاسي الاخير الذي فشل حتى في المرور الى الدور الثاني منه.
اذن التمس الغنوشي الذي سيغادر قريبا حركة النهضة وفق النظام الداخلي للحزب، طريقا ومكانا بالبرلمان اغواه للترويج لخروجه "الكبير" من المشهد السياسي، الا ان هذا الوهم سيتلاشى رويدا رويدا على امتداد السنوات الخمس المقبلة.