بقلم أنيس همامي يتأكد يوما بعد يوم أن الوضع السياسي بالبلاد يؤول إلى الغموض ومزيد من الغموض بالرغم من بوادر ومؤشرات تشكل جديد للمجتمع السياسي . و بقدر ما يلف الغموض الشأن السياسي تحف المخاطر بالوضع الاجتماعي والاقتصادي وبنفس القدر تفتح الأبواب على كلّ الاحتمالات. ومن أجل وضع الأمور في نصابها لا من تقدير واقعي لمدى خطورة وحساسية وجسامة ما تقبل عليه البلاد من خسارة وتدهور في صورة استمرار التعاطي مع الواقع الراهن من قبل كل الأطراف بالمنطق والممارسات السياسية الحالية التي تسود منذ الانتخابات. لقد وضعت الثورة أوزارها ومن الغباء السياسي تصور قيام ثورة ثانية في الأفق هذا وهم أو حلم يجب تركه جانبا والتوقف عن المراهنة عليه .ذلك أن الخزان السياسي قد انفجر وانكشف ما يعج به المجتمع من تناقضات فكرية وسياسية وسلوكية وضعت الجميع إزاء مشهد سياسي متمزق متنافر المكونات مشتت المواقف غير متوازن بالمرّة ومن المستبعد ان لم يكن من المستحيل عودة الانفجار في زمن منظور . لقد تسيّس كلّ شيء حتى المطر الذي ينزل من السماء وأصبحت البلاد مقهى سياسيا فسيح الأرجاء وبالرغم مما قد يبدو من استمرارية أداء أجهزة الدولة لوظائفها الحيوية فإن هذه الأجهزة لم تسلم من عطالة يخشى أن تتفاقم . كما أن مؤشرات تحسن الوضع الاقتصادي وأساسا الموسم الفلاحي الواعد لا تكفي لوحدها لبعث التفاؤل في باعتبارها ليست وليدة خيار سياسي أو اقتصادي وإنما مصدرها رحمة السّماء وهي مصادفة سعيدة محدودة الوقع على الوضع الاقتصادي المفزع. لقد شهد الوضع الاقتصادي تردّيا سنة 2011 عندما سجل الناتج الوطني الإجمالي نموا سلبيا بنسبة تقارب 2% فقدنا معها نحو 30 ألف موطن شغل قد يتّم استردادها سنة 2012 ولا يعني ذلك أن وضع التشغيل سيراوح مكانه خلال هذه السنة باعتبار الطلب الإضافي الذي قد يجعل عدد العاطلين عن العمل يربو على المليون كما أن الصابة الفلاحية الواعدة التي قد تنعكس إيجابيا على وضع الأسعار لا تكفي لوحدها للدلالة على أن الوضع الاقتصادي يسير نحو الأحسن خصوصا أمام تعطّل حركة الاستثمار الخاص الداخلي والخارجي والاستثمار العام وحالة الخوف والإحباط التي تعم أوساط المستثمرين ورجال الأعمال بالداخل الذين يتوجس الكثير منهم من مخاطر المصادرة والمحاسبة بما ينذر بتوقف وشيك للاستثمار في ظل التجاذبات السياسية الراهنة والمزايدات وغموض مفهوم العدالة الانتقالية . في سياق الأزمة وحسب المعطيات الإحصائية المتوفرة فإن نسبة الفقر المقدرة بحوالي 24% مرشحة للارتفاع تحت ضغط البطالة وغلاء المعيشة وفقدان مواطن الرزق وانهيار القوة الشرائية لقاعدة عريضة من الفئة الوسطى الآخذة في الالتحاق بأسفل السلم الاجتماعي. تتساوق هذه المظاهر مع مناخ نفسي اجتماعي ملامحه التأزم والمخاوف الجماعية من الآتي المجهول وعدم الشعور بالأمان وانخرام ثقة المجتمع في نخبته وطبقته السياسية الحاكمة والبديلة (المعارضة ) . وبالرغم من دقة وخطورة الأوضاع الاجتماعية والسياسية فإن المجتمع السياسي ممثلا في الأحزاب السياسية وسائر الفعاليات المدنية الكبرى كمنظمات الأعراف والأجراء يبدو بعيدا عن التقدير الواقعي والحقيقي لما يمكن أن ينجم من كوارث كالانهيار الاقتصادي والانقسامات الاجتماعية والفوضى السياسية وعودة الديكتاتورية في أعتى مظاهرها. إن تبادل تهم الالتفاف على الثورة وتهم الفساد والتواطؤ مع جيوب الردّة والتآمر و مظاهر ابتزاز الدولة والعجز عن إدارة شؤونها والتربص بالانتخابات القادمة لا تبدو من العوامل المساعدة على تخطي الواقع الراهن المفزع لما بعد الثورة . و الأمر لا يبدو كقضية أخلاقية بقدر ما هو عقدة تاريخية لم يشف منها الجميع بالرغم من الآلام والأوجاع التي يعانيها الجسم الاجتماعي وصيحات الفزع التي يطلقها الفقراء والعاطلون عن العمل والمرضى والمظلومون والمحرومون والتائهون من هنا وهناك. إنه وفي الوقت الذي يغرق فيه المجتمع في أوجاعه وآلامه ومصائبه اليومية تغرق النخبة السياسية في خلافاتها الصبيانية وترهاتها التي تبدو سخيفة و مخجلة. لقد تحولت القضايا الجانبية إلى قضايا جوهرية. التعويضات عن الظلم وسلب الحرية، منع رجال الأعمال من السفر، ، جرحى الثورة يعالجون بالداخل أو بالخارج، ، السلفيون، التجمعيون، أجور نواب التأسيسي. و حتى القضايا الجوهرية مثل مصير الإعلام العمومي والهيئة المستقلة للانتخابات تطرح في غالب الأحيان بشكل جزئي ومنحاز بما لا يساعد على حلها . إن ما تعيشه البلاد من تدهور يدعو إلى إنهاء المشهد السياسي الحالي وإحلال مشهد سياسي جديد ينهي ما يعيشه المجتمع والدولة من تخبط واضطراب واهتزاز وغموض . إن وصول حركة النهضة إلى سدّة الحكم هو استحقاق انتخابي ديمقراطي لا خلاف حوله وأن كلّ تشكيك في شرعية هذا الحدث التاريخي أيا كانت مستنداته مردود على أصحابه كما أن اصطحاب حركة النهضة لكل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل إلى سدّة الحكم في هذه الرحلة الصعبة الشاقة هو أمر مشروع ومن واجب الجميع دعمه والالتفاف حوله كخطوة ضرورية في اتجاه تكريس المسار الديمقراطي وإحلال تقاليد وعادات سياسية حضارية جديدة في المجتمع إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب عن الذهن أمرا أساسيا وهو أن الديمقراطية اذا اختصرت في الصيغة الانتخابية تتحوّل الى حل ابتر لا يؤمّن تحقيق الانتقال الديمقراطي في مجتمع يتسم فيه المشهد السياسي بالتفكك والتشرذم والتنافر السياسي والإيديولوجي وعدم نضج التركيبة السياسية . لسنا على أبواب انفجار اجتماعي لكن لسنا على أبواب مخرج من عنق الزجاجة وأيا كانت ديمقراطية وشفافية الانتخابات المنتظرة فإنه لا ينبغي تعليق آمال عريضة على ما ستحمله من معالجات لأزمة سياسية مجتمعية متعدّدة الأوجه قد تضعنا حيث نحن اليوم وربما بشرعية سياسية أضعف . إذا كان ذلك كذلك فإن العمل والبحث عن مخارج من الوضع الراهن يكون حتما خارج أطر المعالجات الحالية والسلوكات السياسية الراهنة . لقد أبدع المجتمع التونسي في ثورته التي لم تكن ثورة على الاستبداد بل كانت ثورة على الفساد والضيم الاجتماعي والاقتصادي ولم تكن ثورة ممنهجة إرادية بل كانت ثورة عشوائية عفوية ولم تكن في الأصل ثورة ترمي إلى إسقاط النظام لكنها أسقطته ولم تكن ثورة ترمي إلى التأسيس وإحلال دستور جديد لكنها اتخذت ذلك المنحى وأصبح الدستور الذي هو آخر مشاغل الجياع والمحرومين والمظلومين على رأس جدول أعمال نوابهم . لذلك فإن معالجة واقع ما بعد الثورة يجب أن تكون مستمدة من هوية هذه الثورة من منطقها الداخلي من أصولها وتداعياتها وليس مما تختزنه النخب من أفكار وتصورات حول الثورة كما أن هذه المعالجات يجب أن تكون وليدة الخصوصية الثورية وخصوصية المشهد السياسي والاجتماعي الوطني حيث يتطلب الأمر قيام سلطة متنوعة التركيبة مجتمعة حول الأدنى الضروري لاستمرارية المجتمع والدولة والتنمية وهو ما قد لا تفي به الديمقراطية الانتخابية كحل للخروج من الأزمات والمآزق السياسية للمجتمعات المفككة التابعة الضعيفة وما لا تجسمه التركيبة الحالية للسلطة. إن حكومة وطنية تعكس ما يختلج صلب البنية الاجتماعية من توجهات وألوان وما يختزنه المجتمع من أفكار وتطلعات بما يؤهلها إلى أن تكون امتدادا عموديا وحقيقيا للمجتمع في المجال السياسي هي الحل الوحيد لتجنب الهاوية التي نراها بفزع على مرمى حجر.