العنكبوت ينسج لنفسه بيتاً ولا يقبل منَّة، والحية تطلب ما حفَر غيرها، إذ طبعها الظلم، والغراب يتبع الجيف، والصقر لا يقع إلا على الحي، والأسد لا تأكل إلا من فريستها... ، والفيل يتملق حتى يأكل، والخنفساء تطرد ثم تعود، والذئب ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بالأخرى المنايا.. وهكذا تتفاوت الهمم حتى بين الحيوانات، أما بين البشر فقد قال ربنا: " إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ". ( سورة الليل الآية:4)، إن الهمة رزق من الله، والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، و صدق من قال: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارمُ وتعظُمُ في عين الصغير صغارُها وتصغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ إن من الأنفُس ما يكون همها دنيئة يرشدها إلى كل مرذول، ويعينها على الباطل، ويصرفها عن الهداية والصواب، كقوم فرعونَ وإخوان لوط؛ ومن الأنفس ما يكون همها عاليا تطلب من الأمور معاليها وتجتنب أراذلها، فتقصد إلى المقامات السامية، والدرجات الرفيعة، تزكو بأعمالها، وترتفع بأوقاتها، ورائد هذه الطائفة هم الأنبياء والمرسلون ومَن سار سيرهم، واهتدى بهديهم.. إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكاره منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب، ولذا فإن سلعة الله غالية، وسلعة الله الجنة، وقد حُفَّتْ بالمكاره.. أجمع عقلاء كل أمّة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاقِّ تكون اللذة والفرحة، فلا فرحة لِمَن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له؛ بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر، والله المستعان.. كبير الهمّة دوما في عناء، وهو أبدا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ، لأنّ مَن علت همّته وكبرت، طلب العلوم كلها، ولم تقتصر همّته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته.. كبير الهمّة كائن متميز في كل خصائصه، حتى في ندمه، فبينما يندم خسيس الهمة بفوات لذته، أو يتحسر لفراق شهوته، فإن لكبير الهمة شأناً آخر وهو يندم فهو يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا، لا لأنه عصى الله فيها؛ وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله عز وجل، وفي الحديث: " ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها ".. كبير الهمّة يتحرى الفضائل، لا للذة ولا لثروة ولا لاستشعار نخوة ولا للاستعلاء على البرية، بل يتحرى مصالح العباد، شاكرا بذلك نعمة الله وطالباً به مرضاته، غير مكترث بقلة مصاحبيه فإنه إذا عظُم المطلوبُ قل الْمُساعِدُ.. قال سفيان بن عيينه: " اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها ". إنّ عالي الهمّة يعلم أنه إذا لم يزد شيئا في الدنيا فسوف يكون زائدا عليها، ومِن ثَم فهو لا يرضى أن يحتل هامش الحياة؛ بل لابد أن يكون في صلبها ومتنها عضوا مؤثرا.. وما للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا ما عُدَّ مِنْ سَقَطِ المتاعِ لم يعد لنا مزيد و غدا هناك جديد