لم أخطط مسبقا لكتابة هذا المقال ولكن عندما شاهدت احتفالات الشعب المصري بمرور سنة عن ثورة فيفري وسقوط الطاغية مبارك ودخوله دوامة السجن... وكل أتباعه؛شعرت بحرقة وقهر مزق أفكاري.مؤشرات التغيير بانت على المشهد السياسي المصري وأول أهداف ثورتهم تحقق وهو محاكمة راس الأفعى حسني مبارك وعائلته و شفي غليل كل من طالهم ظلم مبارك وجبروته هذا الى جانب زيادة تطور المنظومة الإعلامية المصرية المعروفة مسبقا بهامش من الحرية التي تدعمت بعد الثورة....وقائمة المتغيرات طويلة رغم تعقد الأزمة المصرية و وجود الفتن الطائفية و الاختلافات الإيديولوجية بين مئات التيارات السياسية.المهم في نهاية الأمر أن المعطيات تنبئ بخير لشعب مصر و الشروط الثلاثة لنجاح ثورتهم بدا نصابها يكتمل. هذا النجاح النسبي الذي حققته الثورة المصرية يدفعنا إلى التساؤل عن حالنا:ما الذي يعيق نجاح الثورة التونسية رغم أسبقيتها للثورة المصرية؟ وطبعا تكون الإجابات كثيرة تتداخل في أفكاري وأولها تعطيل عمليات المحاكمة لبن علي وأصهاره وزوجته وكل من ساهم في تعميق منظومة الفساد في تونس و تعطيل استرجاع الأرصدة المجمدة في سويسرا وغيرها من البلدان "الراعية" لأموال الحكام الفاسدين العرب وغيرهم؛هذا بالإضافة إلى تعطيل البت نهائيا في ملف المؤسسات المصادرة و إيجاد الحلول الكفيلة للاستفادة منها في إنعاش الاقتصاد الوطني الذي بدا وبشهادة خبراء اقتصاديين يلفظ أنفاسه الأخيرة و عملية إنعاشها معطلة. هذه المؤشرات وغيرها تساهم في إفشال الثورة التونسية ولكن تبقى الأسباب الرئيسية هي الإعلام و السياسة و المجتمع الذين سآتي على تحليلهم في بقية المقال. بعد مرور سنة من تاريخ اندلاع ثورة الحرية و الكرامة وبعد أن تشكلت الحكومة الجديدة وخلنا أن الشعب التونسي سيبدأ في قطف ثمار ثورته و رسم ملامح الانتقال الديمقراطي وإيجاد آليات جديدة لضمان تكريس مبادئ الحرية و الكرامة لم يتحقق شيء ملموس و يبدو أن الثورة التونسية لم تنضج بعد ولا يمكن قطف ثمارها في الوقت الراهن والأسباب واضحة و جلية. الاقتصاد على حافة الانهيار؛البطالة في تزايد مستمر؛السياسة بين الأخذ و الرد على كراسي العار؛العلاقات الخارجية تائهة بين الحقيقة و الخيال؛أما أموال المخلوع المجمدة والمؤسسات المصادرة فحدث و لا حرج فلم يصدر بشأنها أي قرار؛ودعك عن منظومة الإعلام التي لم تحدد بعد خطها التحريري وكأنها تنتظر الرجوع إلى الإعلام البنفسجي...وقائمة التراجعات تتزايد و تربك الشارع التونسي و تدخله دائرة الحيرة والتساؤل...إلى متى ستستمر هذه المسرحية الفلسفية؟ مسرحية لم يفهم المواطن التونسي أطوارها و رمزيتها و لم يقنعه أداء ممثليها؛تفطنوا إلى أنها مسرحية لا تستجيب لواقعهم ولا ترد على أسئلتهم و لا تبرر مواقفهم...باختصار هي مسرحية غريبة عنهم؛ أبطالها لم يعيشوا قهر الظلم و الاحتياج؛ أفكارها لا تستجيب للواقع التونسي المرير.و السؤال الذي يلح على طرحه باستمرار: إلى متى يتواصل إجهاض ثورة التونسي البسيط؟ يبدو أن قدر الشعب التونسي يحتم عليه الاستمرار بخضوع لاملاءات أصحاب القرار في كل الميادين وتحت إمرة سياساتهم الاقصائية و التهميشية ويستحال أن ينفذ ثورة في كل الميادين... الإعلام التونسي ترجمة حرفية للمصالح الفردية... تعتبر الصحافة السلطة الرابعة في بلادنا رغم أن هذا الترتيب أثار جدلا و اختلافا مستمرا و اعتبرها البعض سلطة أولى إن لم نقل قبل الأولى نظرا لما تمارسه من ضغط و توجيه للرأي العام ومدى مساهمتها في تحديد ملامح أي مجتمع وتصوير مكانته. اعتقد أن الحديث عن حرية الصحافة في العالم العربي عامة وتونس خاصة هو استخفاف بالعقل العربي وتضليل للرأي العام في الدول العربية,دعونا نقولها بكل حرية ونحن نعيش ثورات الحرية العربية. صحافتنا ليست ملكنا و ليست مرآتنا التي تضع أمامنا واقعنا بكل معطياته و جوانبه السرية حتى وان عشنا ألف ثورة عربية .فمادام الإعلام يغالط و يموه و يحاول ان يزيف الحقائق ويهول النزوات و يجعلها أزمات فلا منقذ من انهيار الثورة و اندثارها بين طيات ديكتاتورية جديدة لا تجيد من السياسة سوى القمع و التعتيم و الظلم و كل تفاصيل الديكتاتورية المطلقة حتى تتمكن من الإمساك بزمام الأمور و وضع حد لكل الخروقات و الفتن والأزمات التي يخلقها الإعلام بانحرافه عن الموضوعية و الحياد و المصداقية ويسعى جاهدا الى نحت كيان سياسي جديد يتماشى وخطه التحريري و يشوه كل ولادة سياسية ديمقراطية لا تتماشى و أهدافه البراغماتية. دعوا الشعب التونسي يشكل واقعه و يعبر عنه بأسلوبه الخاص فهو ليس في حاجة للصحافة الصفراء التي تطوع الإعلام والصحافة في خدمة الأنظمة الديكتاتورية البائدة. لازال أمامنا وقت كبير لإعادة بناء المنظومة الإعلامية التونسية على أساس الحرية والديمقراطية في التعبير والتعددية الفكرية ; ولإنجاح هذا التغيير يشترط أن نقتلع جذور الصحافة البالية القديمة و نزرع مكانها أفكارا نيرة موضوعية في عقول شباب تونسي اقتلع كرامته و حريته من أنياب إمبراطورية جائرة فلن يصعب عليه أن ينقلب على منظومة إعلامية زائفة. كل وسائل الإعلام اليوم تبحث عن أسلوب ترضي من خلاله الحكومة أو أي طرف آخر؛فعديد الصحف والمجلات تتشدق بمبدإ الاستقلالية و الموضوعية في نقل الحقائق وهي تكرس و تدعم إيديولوجيات معينة و جهات محددة تربطها معها مصالح مادية أو معنوية. أما القنوات التلفزيونية و الإذاعية فقد فشلت في ركوب صهوة الثورة وفضحت نفسها لدى الرأي العام الذي هو على يقين بتجاوزاتها و إصرارها الدائم على مدح بن علي و أصهاره و التقرب منهم من خلال تلميع صورهم السوداء وتأتي اليوم لتتحدث باسم الشعب التونسي و تتحدث باسم الوطنية و المصلحة العامة و تعتبر نفسها أنها مهدت لهذه الثورة من خلال جرأتها المصطنعة و برامجها الساذجة التي قد يكون لها تأثير في الرأي العام البسيط و لكنها تنكشف أمام النخبة و المطلع على دواليب التلاعبات الإعلامية يعلم بكل تفاصيلها وأساليبها. السياسة غير الواضحة حاجز أمام إعادة البناء الوطني لا يمكن أن ننكر أن ثورة 14 جانفي كانت نتيجة لمعاناة سنين من الظلم و الحيف و الاستغلال و الاستبداد عاشها الشعب التونسي بمختلف مستوياته الثقافية و الاجتماعية باستثناء تلك الطبقات التي تمعشت من مسح أحذية أصحاب القرار و تلميع صورة الديكتاتور وأصهاره لدى الرأي العام العالمي الذي كان يعتقد أن الشعب التونسي يعيش تحت راية الجمهورية الفاضلة و بحكم عادل و مشترك.من اجل هذه الأسباب قامت الثورة ومن اجل الحرية و الكرامة تمرد التونسيون البسطاء و جازفوا بحياتهم و"هرموا من اجل هذه اللحظة التاريخية" ولكن يبدو أن الثورة أسهل بكثير من إعادة البناء حيث لم نسجل أي تطور واضح و ملحوظ في كل المجالات الحياتية التي تشكو من الفساد و التجاوزات والظلم حتى بعد تشكل حكومة وطنية شرعية فالحال لم يتغير وعجلة الاقتصاد لازالت واقفة ونسبة البطالة في تزايد مستمر ولا حياة لمن تنادي وكأن التاريخ قد توقف عن صيرورته ليضع حدا للثورة التونسية وحتى يربك من قاموا بها و يندّمهم على هذه الثورة التي لم تينع ثمارها ولم تعط أكلها خاصة بعد حزمة الوعود و البرامج التي أصدعت بها الأحزاب رؤوسنا و جعلتنا نصدق أكاذيبهم و تلاعباتهم ونسلم لهم زمام الأمور.أحزاب بالمئات و"الصحيح يجيبو ربي" و الغريب في هذه الأحزاب أنها جمعت كل المتناقضات وقدمت لنا برامج انتخابية واهية لم يتحقق منها شيء. أحزاب لا تتفق قياداتها فيما بينها ففي كل مرة نسمع تصريحا من احد أعضاء حزب معين ويأتي عضو آخر ليقول عكس ذلك أو ليصحح أخطاء غيره و يحاول تداركها و تجميلها ووضعها في سياقات ايجابية بأساليب مفضوحة وهو ما افشل في نظري هذه الحكومة الجديدة و لم يساعدها على الثبات و الصمود أمام كل محاولات التشويه والتعطيلات المتأتية من كل الجهات. الوضع السياسي في تونس لم يتغير بعد الثورة و الفساد لازال مستفحلا و المصلحة الوطنية ابعد ما يكون عن ذهن هؤلاء الساسة الذي ظلوا مدة شهور يتصارعون من اجل المناصب و يحاولون قدر المستطاع الاستفراد بالرأي و القرار؛فهم لم يغيروا واقع البطالة و لم يحققوا العدالة الانتقالية ولم يستأصلوا عروق الفساد بل ظلوا يوعدون ويتشدقون بخطابات بالية فحتى بيانات التنديد بكل التجاوزات التي تصدرها الحكومة أو الأحزاب الناجحة لا تحوي أي قرارات ملموسة فقط تقف عند حدّ: "تدعو الحكومة ....؛أو يدعو حزب....أو تندد الحكومة..." وللشعب دور في تأخير نجاح ثورته لا احد يحق له أن يفلت من مسؤوليته في إخماد لهيب الثورة التونسية و إدخالها مرحلة الركود فكل المعطيات وقفت دون تحقيق اهدافها بدءا بالغموض السياسي ومرورا بالتعفن الإعلامي ووصولا إلى التخاذل الشعبي الذي بات يمثل حاجزا هاما أمام عدم تحقق أهداف ثورة الحرية و الكرامة وذلك من خلال إدمانه على أفيون الاعتصام و الإضراب و الوقفات الاحتجاجية المستمرة و المتكررة و التي ساهمت بكيفية كبيرة في تهور الميزان الاقتصادي و إغلاق مجموعة من المصانع و المؤسسات وبالتالي ازدياد نسبة العاطلين عن العمل وانسداد آفاق التشغيل وأمل الانتعاش الاقتصادي.هذا إلى جانب عمليات النهب و السرقة و التخريب للممتلكات العامة و الخاصة دون الوعي بخطورة نتائجها وجملة التجاوزات التي قام بها الشارع التونسي كثيرة وهي من بين الأسباب الهامة و الرئيسية في دخول ثورتنا غيبوبة مؤقتة لا نعلم متى وكيف ستستيقظ منها. تونس تمرض و لا تموت...والأمل في غد أفضل لا يزول رغم إقرارنا بصعوبة الوضع الراهن الذي تمر به ثورتنا و المخاض العسير الذي تعيشه ولادة الانتقال الديمقراطي البكر لأول مرة في التاريخ العربي عامة و التاريخ التونسي خاصة إلا أن الأمل في غد أفضل يظل قائما ولكنه مشروط بجملة من الرهانات وأهمها المصداقية والإرادة السياسية في كل القرارات المصيرية التي تعمل الحكومة الحالية على اتخاذها و تطبيقها على ارض الواقع هذا إلى جانب ضرورة استفاقة الوعي الاجتماعي وإحساسه بخطورة الأوضاع الراهنة و البحث عن آليات فاعلة لتجاوز الأزمة خاصة من خلال التوقف عن الاعتصامات و الإضرابات و الوقفات الاحتجاجية المتكررة المضرة بصحة الاقتصاد الوطني فمن صبر 23 سنة على الظلم و التهميش يستطيع أن يصبر بضع سنوات ثم يطالب بحقوقه المادية ولكنه لا يؤجل مطالبه الرامية إلى التطهير و إزالة كل شوائب الفساد العالقة بمختلف المؤسسات الحكومية و الخاصة في بعض الأحيان.كما يشترط نجاح ثورة الحرية و الكرامة أرضية إعلامية جديدة تكرس كل مبادئ العمل الصحفي و تتخلص من الضغوطات السياسية و تتملص من النزعة النفعية التي تغيب لدى الإعلاميين و الصحفيين الضمير المهني و تجعلهم سجناء لاملاءات فوقية و سياسات فكرية جائرة. بقلم: إيمان الدجبي