حالة غليان لم تسجل في تاريخنا الحديث نعيشها منذ شهور... والمجتمع انقسم إلى فئات: فئة تريد أن تتحقق لها كل أمنياتها وتطلعاتها وعلى الفور... وإذ تأخر ذلك فانها مستعدة لاسقاط الهيكل على رؤوس الجميع... وفئة من زبانية العهد البائد والمستفيدين منه اجتازت مرحلة الهيجان الشعبي من دون ضررفاستعادت أنفاسها ولملمت صفوفها وبدأت في تخريب ما تحقق من منجزات باستئجار مفتولي العضلات وبث الفوضى والفتنة ونشر الرعب متحصنة بهيئات لحقوق الإنسان آلت على نفسها أن تمنع الردع وبذلك ساهمت (ولنفترض حسن النية) في ضياع «هيبة الدولة» والدوس على كل القوانين... وفئة صامتة (وهم الأغلبية) لا يملكون لسانا سليطا ولا قدرة لم يتربوا عليها في استخدام القبضة لمنع التعدي على الحرية والممتلكات... وفئة جاءتها الفرصة على طبق... جلهم لم يساهموا فيها وبعضهم كان في «غربة» خمس نجوم فانطلقوا في سباق محموم عبر الإعلام واللجان وفي كل المنابر حتى التي أمر الله تعالى ألا يذكر فيها إلا اسمه يحشدون القوى البشرية والمالية للاستئثار بالحكم عبر انتخابات يجهدون في أن يكون لهم نصيب من ثمارها... أما الدولة والمجتمع فقد مر من فترة شابها الكثير من التشويه بعد الاستقلال إلى فترة عقدين ونيف نخر فيه الفساد كل شيء... رأس الهرم وعائلته وأصهاره وبطانته ومن سار في ركابهم... أكثر من عشرين سنة لم يبق فيها مجال للصدق والنزاهة والعدل إلا ما رحم ربك... فساد استشرى في الإدارة وفي الأمن وفي القضاء وفي الإعلام وفي المحاماة... في كل مكان وفي كثير من النفوس الأمارة بالسوء والتي لم تقرأ للنهاية عواقب ولم ترع في الوطن إلاّ ولا ذمّة... حتى وصل الفساد بكل اشكاله إلى ابسط الموظفين وإلى العمد واعوان التراتيب في البلديات... رشوة ومحسوبية واستغلال منصب ونفوذ والكسب الحرام السريع... وانتشرت في البلد عصابات وتشابكت كخيوط العنكبوت وأخطرها تلك التي نسجت حول مواقع القرار... ومواقع القرار هم الرئيس ومن حوله... كانوا قمة الهرم ومن ورائهم مفسدون يتناسلون ويحمي بعضهم بعضا ويتنافسون في ممارسات تراكم الظلم فيها حتى تفجرت انتفاضات عدة في الحوض المنجمي... ثم في سيدي بوزيد وفي القصرين لتنتشر وتعم مع مطلع العام وتتحول إلى ثورة أطاحت بالنظام بل كانت الشرارة التي حركت الجماهير العربية ضد أنظمة مماثلة ليبدأ ما سمي الربيع العربي. اكتسحت الجموع المدن والشوارع والساحات لم يحركها إلا الغضب للوطن وللكرامة والكراهية للقهر والفساد ولم يؤطرها قائد او حزب او تيار / رغم ادعاء البعض بأنه كان وراءها بل منهم من أورد أسماء ل«إبطال» لم يسمع بهم احد... وسقط الشهداء وفر رأس الفساد والبعض من بطانته... وبقراءة موضوعية هادئة ندرك أن ثورة الشعب على اهميتها ما كان لها أن ترى هذا التتويج بالقليل من الدماء لولا ارادة الله سبحانه اولا ثم الموقف الذي اتخذته القوات المسلحة التي رفضت اطلاق النار لوأد الثورة في مهدها... وربما لاسباب اخرى وعوامل اخرى قد تكشفها الأيام... كان بالإمكان أن تقمع الثورة في حمام دم وكان بالإمكان أن يقفز الجيش على السلطة ويزيح النظام وربما يقابل بهتاف الجماهير... ولكن شاء الله أن تمر ثورتنا بسلام /نسبي بالمقارنة مع ما شهدناه ونشهده في ساحات عربية اخرى... ونجحنا في تقويض نظام الفساد . ولكن... الثورة هدم يليه بناء... مبادئ وقيم... عمل ونكران للذات... وقد هدمنا النظام... لكننا يبدو أننا لم نعرف حتى الان طريقنا للبناء وللعمل وللتفاني وللتجرد من الأنانية ولنبذ عقلية تصفية الحسابات... بل هناك من رفع عقيرته بالصراخ «الثوري» للتغطية على ممارسات هي أبعد ما يكون عن الثورية والصدق وحب الوطن... وبدأ البعض في نشر غسيل البعض وبدأت تتكشف حقائق عن ممارسات سابقة لبعض «ثوريي» العهد الجديد... وستكون الفترة القليلة القادمة /فترة الحملة الانتخابية ملأى بالمزيد من الخبايا المكشوفة والأسرار المفضوحة... وأزحنا أولى حكومات الثورة باعتصام وجئنا بحكومة جديدة... وجاءت حكومتنا بوزراء وولاة واعوان... منهم من اجتهد وما زال ومنهم من جعل همه كسب ود الأكثر صراخا والأقل سعيا إلى المصلحة العامة مثل احد الوزراء /ومن ورائه والي / الذي لم يتردد في الخنوع لرغبة مشبوهة من بعض الأطراف واتخاذ قرارات يدرك أنها خاطئة وظالمة مصرحا دون مواربة أن هذه الأطراف هددته بمالا تحمد عقباه اذا لم ينفذ رغباتها... وضاعت هيبة الدولة وديست القوانين... وتكاد السلطة في الشارع تؤول لمن يملك القوة مالا ولسانا سليطا وأصحاب عضلات وسوابق... ونكاد ننتقل من فساد دولة إلى فساد مجتمع... الاقتصاد في تراجع ومهدد بالانهيار... والوضع الاقليمي يحمل من المخاطر ما لا يلتفت اليه أحد... والأحزاب عينها على المجلس وكأنما هو الحل السحري لكل المشاكل والبلسم الشافي لكل الجراح... والبعض يغدق اموالا لا يكشف عن مصادرها والمال السياسي مشبوه بل مدان بكل الأعراف والأخلاق... ونعتصم من جديد وننادي برحيل الحكومة ونحمل الحكومة الحالية مسؤولية ما يجري من انحرافات بل من سرقة للثورة... ونستمر في الهدم واستغلال الفرص دون أن نفكر في العاقبة والمصير... أزلنا نظام الفساد لكننا لم نقض على الفساد نفسه بل نراه يتفشى بصور جديدة... اردنا الكرامة للناس والعزة للوطن لكننا لا نسلك الطريق الصحيح لتوفير هذه الكرامة وتحقيق هذه العزة... وستكون جريرتنا اكبر بل ستكون جريمة في حق الوطن والأجيال وفي حق امتنا العربية كلها واحرار العالم والتوّاقين إلى الحرية لأننا بدأنا واصبحت ثورة تونس هي المثل... والثورة اخلاق... لمن يهوى الأممية هي اخلاق وانما الأمم الأخلاق... ولمن يعشق العروبة فالعروبة شهامة وعزة نفس وفتوة ورفعة اخلاق... ولمن يراها ثورة اسلامية فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم انما بعث ليتمم مكارم الأخلاق... اذا لم تكن لنا اخلاق الثوريين فلن تستقيم لنا مسيرة مهما غيرنا من وزارات وأنشأنا من لجان واحزاب وجمعيات ونظمنا من انتخابات واخترنا من مجالس... الداء فينا... فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟