أعلن رئيس حكومة كوسوفو هاشم تاتشي استقلال هذا الإقليم في 17 شباط/فبراير الجاري ، بعد أن أصبح نقطة تجاذب أساسية على الساحة الدولية في غضون الأيام الماضية، حتى باتت قضية كوسوفومن أكثر القضايا حدة في مجال العلاقات الدولية، جراء تباعد المواقف بين الولاياتالمتحدة الأميركية و بلدان الاتحاد الأوروبي الذين يؤيدون قضية الاستقلال ويعترفون بهذا الكيان الجديد في قلب أوروبا ،و بين صربيا وروسيا اللتين تعارضان بشدة هذا الاستقلال. فقد أكد الرئيس الصربي بوريس تاديتش، موقف بلاده "بعدم الاعتراف أبداً بانفصال إقليم كوسوفو عن أراضيها، وأن حكومته ستعيد النظر في مجمل علاقاتها مع البلدان التي تعترف باستقلال الإقليم الصربي، الذي أعلنه زعماء الألبان من جانب واحد، منتهكين القوانين الدولية". ولوّحت موسكو التي تؤيد بلغراد في رفضها "سلخ" الإقليم عن صربيا، لخشيتها من انتشار عدوى انفصال كوسوفو على أقاليم تسعى إلى الانفصال عن جمهوريات سوفياتية سابقة، مثل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا. ويعود الصراع بين الصرب و الألبان إلى قرون غابرة. فالقوميون الصرب يعتبرون إقليم كوسوفومهد حضارتهم و تاريخهم. و في غرب مدينة "بيك" تنتصب بطرياركية(بيك) الأورثوذكسية شامخة، منذ القرن الثالث عشر. و كانت (بيك) عاصمة المملكة الصربية التي بلغت ذروة مجدها في عهد (ستيفان دوسان) 1331-1355، ورمزاًً للقومية الصربية. و لكن مع سقوط المملكة الصربية على أيدي الأتراك العثمانيين في العام 1389، جعلت مدينة (بيك) خاضعة للحكم العثماني، واندمج بذلك السكان الصرب مع الألبان الوطنيين وانتقل قسم آخر منهم إلى الشمال حتى المجر و سلوفاكيا. خلال مؤتمر برلين، عام 1878، أكّد المستشار بيسمارك جازماً بأن ألبانيا ليست سوى "تعبير جغرافيّ". لكن في العام نفسه، جمعت رابطة "بريزرين" وجهاء قادمين من جميع المناطق الألبانية داخل السلطنة العثمانية، ليظهروا التعبير الأول عن مطالبة قوميّة حديثة. في الحقبة اللاحقة، تبنّت الأمبراطورية النمساوية-المجرية الدفاع عن هذه المُطالبات الألبانية، وبشكل أساسيً لمواجهة صربيا واليونان، حلفاء فرنسا وبريطانيا وروسيا . في العام 1912، أعلن اسماعيل كمال في "فلورا" الجمهورية الألبانية الأولى والتي لم تكتب لها الحياة طويلاً. وبعد عام، قرّر مؤتمر لندن إنشاء مملكة ألبانيا، لكن فوق أراضٍ لا تشمل سوى نصف المناطق التي يعيش فيها الألبان. وقد ثأر القوميون الصرب لهزيمتهم في العام 1912-1913، ودخلوا كوسوفو مرة ثانية بعد معارك ضارية وسفك دماء، بينهم و بين الألبان وتمّ اقتسام إقليم كوسوفو، الألباني بغالبيته، بين صربيا والجبل الأسود. كان ذلك في نظر الألبان أكبر ظلمٍ لحق بشعبهم، ويطمح القوميون المعاصرون ل"تصحيح" "لا عدالة التاريخ" هذه. لم يكن استمرار دولةٍ ألبانيةٍ بالأمر البديهي. إذ كادت ألبانيا تختفي في خضمّ الحرب العالمية الأولى، ولم يتمّ تثبيت حدود الدولة الألبانية إلاّ عام 1926، وبعد عمليات تحكيم مشكوكٍ في منطقها: فمدينة دجاكوفيكا/كجاكوفه قد تركت لمملكة الصرب والكرواتيين والسلوفينيين، في الوقت الذي كان الوجود الصربي فيها محدوداً جداً. كذلك، تمّ تقسيم الأراضي التاريخية لمدينة ديبار/ديبرا بين المملكة السلافية وألبانيا، واليوم هذه المدينة هي مركز مقاطعة يتبع جمهورية مقدونيا، بينما محيطها الطبيعي يوجد في ألبانيا حول بلدة بيشكوبي. وعندما أقر دستور يوغوسلافيا الجديد في عهد الزعيم الراحل جوزيف تيتو عام 1974،أصبح إقليم كوسوفو يتمتع بالحكم الذاتي ، الأمر الذي غير موازين القوى لمصلحة الألبان، و أصبحت الأقلية الصربية في كوسوفوتشعر أنها وحيدة بعد أن سقط حاميها رانسكوفيتش.و منذ ذالك التاريخ، اشتد الصراع بين الصرب و الألبان ، وبلغ مداه في مظاهرات العام 1981، والاضطرابات الدامية في العام 1986. وبعد نهاية الحرب الباردة في نوفمبر 1989 وانهيار جدار برلين، و انتهاءمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ديسمبر 1991 مع زوال الاتحاد السوفياتي ، استمرت أزمة كوسوفو بوصفها خاتمة عقد (1991-1999) من التقلبات و الفوضى و التلمس في مجال السياسة الدولية، إلى أن اندلعت حرب الأطلسي ضد يوغوسلافيا، التي كانت بين المحطات العسكرية الأساسية بعد الحرب العالمية الثانية .و إذا كانت تلك الحرب قد انتهت بدخول قوات الحلف الأطلسي إلى إقليم كوسوفو تحت مظلة واهية للأمم المتحدة، تشارك فيها روسيا، فإنها شرّعت البلقان على احتمالات غامضة ليس أقلها هبوب رياح التغيير و التقسيم الجيوبوليتيكي و الإثني في هذه المنطقة المتفجرة من العالم. و هكذا بات الحل الوحيد لإقليك كوسوفو هو التقسيم بين المسلمين و الصرب.فالقسم الشمالي لكوسوفو الذي يعيش فيه 100000 صربيا يجب أن ينضم إلى صربيا، بينما يحصل باقي الإقليم الذي يسكنه الألبان على الاستقلال. و لم يعد الاعتراض موجودا سوى لدى صربيا وهو اعتراض مهزوز داخليا جراء وجود مؤيدين و معارضين لهذا الانفصال الجديد.بيد أنه ليس إقليم كوسوفو وحده هو الذي يعاني من الاضطهاد الصربي، بل إن الأقلية المجرية( 300 ألف التي تسكن إقليم فوفودينا أرسلت عدة طلبات للاتحاد الأوروبي و حلف شمال الأطلسي، تطالب بمنحها حكما ذاتيا، و إنهاء ما تصفه بالتمييز الذي تتعرض له داخل صربيا، في حين تجد الأقلية المسلمة (500 ألف نسمة ) التي تقطن في إقليم السنجق نفسها في وضع صعب لأنها لا تجد من يتبنى قضيتها على الصعيد الدولي.