هل يأتي النشر الالكتروني نتاجا طبيعيا لتطور عملية النشر وازدهار صناعة الكتاب ؟ أم يأتي تعويضا وحلا ممكنا لأزمة النشر والتوزيع؟ الإجابة عن السؤال الأول بالتأكيد لن تكون إلا ب«لا»، فالنشر العربي تزداد أزمته تفاقما كل عام بسبب انحسار دائرة التلقي. أما اعتبار النشر الالكتروني حلا فهذا أيضا ليس صحيحا لأن شروط النشر الالكتروني تبقى غير متاحة للعموم بسبب التكلفة الباهظة. إذن، ظهور النشر الالكتروني عندنا ليس سوى تجل من تجليات العولمة وأسلوب حياة استعرناه من الثقافة الغربية التي تعيش هي أيضا مأزقا في النشر الورقي، وليس أدل على ذلك من أزمة نشر الشعر في فرنسا مثلا التي لا تتعدى نسخ الطبعة الواحدة 800 نسخة. منذ عقود تحكمت اليابان في مجالها بإلغاء الرصيف من الشوارع وصناعة سيارات صغيرة جدا لتسهيل حركة السير وبناء بعض الملاعب على سطوح البنايات. إذن في إمكان البشر العيش في واقع جديد قوامه التكثيف، واقع افتراضي واستعاري. الكتاب الالكتروني هو الآخر كتاب افتراضي، ولكنه يحمل كل ملامح الكتاب الورقي ما عدا شكله الخارجي، وهو في وجه من وجوهه عملية تحكم في المجال/الفضاء، فزاوية صغيرة من البيت يمكن أن تتسع لمحتوى مكتبة عملاقة، لأن الكتاب الإلكتروني فقد حجمه الكلاسيكي، بل إننا يمكن أن نخزن كل مكتبات العالم في جهاز كمبيوتر ، ومن ثم تتحول المكتبة إلى وجود افتراضي داخل الجهاز. إن قرصا مثل «الموسوعة الشعرية» يحتوي على أكثر من 265 مرجعا أدبيا منها الأغاني للأصفهاني وكل مؤلفات الجاحظ والتوحيدي و المعري... و 10 معاجم كبرى منها لسان العرب وتاج العروس... وتحتوي على حوالي مليونين ونصف المليون بيت من الشعر موزعة على دواوين 2300 شاعر. قرص بحجم اليد يحتوي على مكتبة كاملة لا يمكن أن يدعي أي باحث مهما كان شغفه بالكتب أنه يمتلكها. وكل هذا الكم من الكتب يباع ب 10 دولارات فقط، كما أن اشتراكا في الانترنت يمكنك من تحميل ما شئت من الكتب. لقد مثل اتحاد كتاب الانترنت العرب، بادرة مهمة للم شتات الكتاب «الأنترناتيين» الذين تخطوا صفر سنة 2000 بسلام مثل حواسيبهم. و لكن هل صحيح أن كل من ينشر في الإنترنت يجيد التعامل معها؟ سؤال يحتاج إلى جواب بطعم ال«لا». لأن الكثير من الكتاب العرب ينشرون أعمالهم في المواقع الالكترونية بواسطات، أي عبر أشخاص آخرين يجيدون التعاطي مع الشبكة العنكبوتية. بل إن من الكتاب الذين نقرأ لهم على النت من ما يزال لا يجيد استعمال الكمبيوتر أصلا، فهو إما يرسل مقالاته بالفاكس إلى الصحف التي تحولها إلى نصوص الكترونية أو عبر واسطات بشرية. ومن أعضاء اتحاد كتاب الانترنت العرب من ما يزال غير مؤهل لكي يكون كاتبا رقميا. الرواية الرقمية ثمة مسألة أخرى هي الرواية الرقمية والتي افتتحها عربيا الروائي الأردني محمد سناجلة بروايتين الأولى «ظلال الواحد» و«شات». ولنتساءل: هل سنكتب، في المستقبل، رواية، أم سنصنعها ؟ تتجه الرواية بطابعها الإسفنجي إلى ضم كل الفنون الأخرى وإلى تدجين كل التقنيات العلمية لصالحها، فهي بطابعها الاستحواذي لا تتردد في امتصاص أدوات تعبيرية لحقول معرفية أخرى، وستكون استراتيجية التناص أهم الذرائع التي ستتذرع بها الرواية كي تفسر ما ستمارسه مستقبلا عندما تقحم مقاطع مصورة من أفلام سينمائية أو أشرطة وثائقية أو خطابات لزعماء سياسيين أو مقطعا اوبراليا أو مقطعا من مباراة رياضية..... نتيجة لهذا ستكون للروائي المستقبلي/الرقمي قدرة خارقة على اقتحام مجالات أخرى لم تتعود الرواية التقليدية في نسختها الورقية على توظيفها واستثمارها. وهذا هو الذي يؤكد أن الرواية تكذب من ينظر لموتها كل مرة، لأنها كائن عجائبي يخلق مرة بعد مرة أرواحا جديدة لكي يستمر. ولكن هذا الشكل الجديد من الرواية المستقبلية /الرقمية سيطرح سؤالا مهما. هل سنكتب رواية، أم سنصنعها؟ كم كان لوبوك مصيبا حين سمى كتابه منذ سنوات ب«صنعة الرواية»؟ وستحتاج مشروعية الضم والإلحاق والاقتحام والاستحواذ التي ستعرفها الرواية القادمة إلى تحكم تقني كبير لا بد أن يكون منطلقه خلفية معرفية بهذه الفنون الأخرى التي ستستعير الرواية تقنياتها وأساليبها ، لذلك على الروائي أن يكون مخرجا سينمائيا إلى حد ما، ملما بفنون المونتاج والصورة والإضاءة...وعليه أن يكون موسيقيا ليحافظ على الإيقاع الروائي داخل العمل، فيقيه من النشاز الذي قد يتهدده أو من الملل الذي قد يصيب المتلقي، وليس من باب الصدفة أن تكون أول جملة من رواية سناجلة الجديدة «شات»: «الملل والصدفة هما اللذان قاداني إلى التجربة»... ونقول هنا «متلقي» ولا نقول «قارئ»، لأن هوية القارئ ستختفي بالتدريج.. سنكون أمام متلق يمارس القراءة حينا والفرجة أحيانا، فمحمد سناجلة مثلا يجعلنا نبحر في عالم من الصور الفوتوغرافية واللوحات العالمية والمؤثرات الموسيقية. قليلا من التشاؤم قد يتبادر إلى الذهن أن ظهور الرواية الرقمية في هذا الزمن الحداثي المعلوماتي سيجعل القراءة تنتعش، لأن طرق إيصال الكتاب أصبحت يسيرة، ويمكن للمرء أن يقرأ كتابا صدر لتوه في القطب الشمالي وهو أمام جهازه الرقمي في القطب الجنوبي. كل هذا معقول من الناحية النظرية، ولكن هل فعلا نحن، في الوطن العربي، مستعدون لهذا الشكل من التلقي؟ على المستوى المادي وعلى المستوى النفسي والإدراكي؟ إذا كانت كل مؤشرات التنمية في العالم الثالث تؤكد أن نسبة الأمية تزداد، فإن هذه الأمية بالمعايير الجديدة ستزداد نسبتها بدرجة مفزعة. فالأمي لم يعد ذلك الذي لا يجيد القراءة و الكتابة بلغته، إنما هو من لا يجيد ثلاث لغات بما فيها الانجليزية، ومن لا ثقافة رقمية لديه ولا يتقن التعامل الجيد مع الشبكة العنكبوتية. لنتخيل كم من شخص سنجده خارج فصول محو الأمية ؟ فما هو مستقبل الرواية الرقمية في مجتمعات لم ترتق إلى مستوى الوضع الورقي؟ سؤال متشائم يحتاج منا أن نحتمي بسرعة بإميل حبيبي لنتشاءل على الأقل. ونطرح السؤال التالي: متى كان الأدب يحتاج إلى مجتمعات مثقفة ومتعلمة؟ بمعنى هل ازدهار الرواية الورقية اليوم يمثل دليلا على أن مجتمعاتنا متقدمة و مثقفة؟ أبدا، فالرواية، وإن أنتجت فعلا في فضاء الهامشي -وليس أدل على ذلك من اسمها قخوشر المشتق من اللغة الرومانية التي كتبت بها الرواية أول أمرها، وهي إحدى لهجات الطبقة السفلى والمهمشة- أصبحت اليوم وفي كل العالم الجنس النبيل، وإن تحدثت عن المهمشين. إنها أدب النخبة بلا شك، لذلك فلا خوف على الرواية الرقمية من أمية الشعوب، لأنها ستتوجه نحو جمهورها. ولكن هل ستأتي الرواية الرقمية بجمهور الرواية الورقية، أم أنها ستنتج جمهورها الخاص بها؟ أم أنها ستغري جمهورا آخر لا معرفة لديه بهذا الجنس الأدبي أصلا؟ كأني بالسؤال هنا يعيدنا إلى التشاؤم . فالمتلقي العربي للرواية الورقية ما يزال يتهيب هذه التجارب الإبداعية ولم يقتحم بعد عوالم النشر الالكتروني، حتى أن من المثقفين العرب من يبتسم سخرية كلما جاءت سيرة النشر الالكتروني، بينما كبار الكتاب في الغرب يسابقون الزمن لإطلاق مواقعهم الالكترونية الخاصة بهم، والشيء نفسه مع المؤسسات الثقافية الكبرى. ربما هذا ما دفع سناجلة في مرحلة أولى إلى إعادة طباعة روايته الأولى ورقيا بعد أن فشلت تجربة نشرها على الانترنت، وقد ضحى مقابل ذلك بالكثير من مقوماتها الجمالية، ولكنه بإيمانه الكبير بمشروعه، أعاد الكرة من جديد لينشر عمله الثاني. والحق أن كل الفنون في بداياتها تمر بمآزق ضرورية لأنها تأتي ضد السائد وضد المكرس وضد الذوق العام للجماهير، ولنتذكر هنا السريالية والدادائية والتكعيبية وما عاناه روادها من اقصاء وتهميش. ببعض التفاؤل ننظر إلى ما اصطلح على تسميته عندنا بمواقع الكتاب الذين أدركوا أهمية هذه التكنولوجيا، فأنشأوا مواقع تعرض إنتاجهم وصورهم لا تأخذ بعين الاعتبار عائق اللغة الواحدة. إذن، لقد خسرنا المتلقي التقليدي، وتحتاج عملية تأهيله إلى زمن طويل. في المقابل تفاعل مع التطورات التكنولوجية جمهور آخر هو الشباب بالدرجة الأولى، هذا الشباب لم يتعود المطالعة التقليدية الورقية، وثقافته مبنية على الوجبات الفنية السريعة، هذا الجمهور الذي ليس له خلفية ثقافية ولا جمالية استقطبته الكتابة الالكترونية بشكل عام، وبدأ يشارك فيها من خلال «الفوروم» أو ما يسمى بالمنتديات. هذا الجمهور هو المؤهل في المستقبل لتلقي الرواية الرقمية، وربما أن انتشار المنتديات الجادة من شأنه أن ينتج ورشات لصناعة قراء جدد يفكون الخط الرقمي والشيفرة الرقمية. ولكن كيف ستكون صورة الناقد الذي سيتعامل مع الرواية الرقمية؟ جزء كبير من نقادنا الورقيين سينتحرون حبريا لو انتشرت هذه الرواية، لأنهم سيحتاجون إلى إعادة تأهيل شامل، فمرجعيات الناقد الرقمي غير مرجعيات الناقد الورقي. الناقد الرقمي هو ناقد شامل، متشعب الاهتمامات، وهذا ما يدفعنا إلى أن نردد خلف الكاتب مفلح العدوان الذي يستند في كلامه إلى محمد سناجلة «بأننا في حاجة إلى مدرسة نقدية توائم بين أبجديات النقد التقليدي، وتقنيات الكتابة الرقمية بأدواتها الحديثة، والتي تشكل الكلمة إحدى عناصرها لا كل كيانها». أما المعضلة الكبرى في تلقي الأدب الرقمي بوجه عام، فتتمثل في التكلفة المادية ، فبعض الدول العربية تصل فيها نسبة الفقر كما يذكر ذلك الناقد المغربي محمد معتصم «إلى درجة محرجة»، بل «إن بعض الدول توجد بها طبقات اجتماعية تحت مستوى الفقر». وتلقي هذا الأدب وهذه الرواية يتطلب جهاز كمبيوتر وانخراطا في الانترنت ، ومن ثم فنحن لا نمتلك هذا الأدب إلا على نحو افتراضي. خلاصة الأمر أن الأدب الرقمي هو أدب السنوات القادمة بلا شك، ولكن ذلك يحتاج منا أن نعدل ساعاتنا على ايقاع واقع حداثي ليس فيه مجال لسبات الدببة. واقع رقمي يسير بسرعة الصوت. و لكن هل تترك البطون الجائعة مجالا للعقول حتى تركض في حقل ما بعد الحداثة والعصر الرقمي؟ ما هي ملامح هذا الانسان الذي سيخلقه الأدب الرقمي؟ وأي قيم سيدافع عنها هذا الأدب؟ هل سيكون الأمر كما وصفه علي حرب في «حديث النهايات»: انسان حيادي لا يدافع عن شيء وصاحب هوية متحولة باستمرار؟ * كاتب تونسي م.أقلام العراقية