المتابع لمشهد الحزب الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية يرى أن باراك أوباما بات على عتبة التاريخ بعد أن أصبح أول مرشح أميركي من أصل أفريقي للانتخابات الرئاسية الأميركية بتمثيل الحزب الديمقراطي، وقد شهدت الأسبوع الماضي ختام معركة انتخابية طويلة ومريرة للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي الأميركي لانتخابات رئاسة الولاياتالمتحدة بين السيناتور عن نيويورك هيلاري كلينتون والسيناتور عن الينوي باراك أوباما حسمت لصالح الأخير. ارتياح عالمي ولم يكن الديمقراطيون في الولاياتالمتحدة وحدهم من تحمس لفوزالمرشح الأسود باراك أوباما بتسمية الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية، إذ أثار هذا الحدث التاريخي موجة ارتياح في كل أنحاء العالم، من أفريقيا، إلى أوروبا، وصولاً إلى آسيا، في ما يمكن أن يسمى ب«أوباوورلد»(أوباما و العالم). وكانت السيدة الأولى سابقا هيلاري كلينتون التي حققت شعبية لدى الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود وفي أوساط النساء والأقليات خصوصاً اللاتينية والآسيوية واليهودية والكوبية، والتي عوّضت الفارق عن تصويت النخبة والأقلية الأفريقية الأميركية التي صوتت لأوباما، قررت إعلان انسحابها من السباق للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية. وكانت كلينتون أقرّت ضمنياً بهزيمتها عندما قالت بتأثر واضح في خطاب ألقته أمام الاجتماع السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية «ايباك»، إن اوباما، الذي أطلق حملته العامة من ولاية فيرجينيا، «سيكون صديقاً جيداً لإسرائيل». وكان سيناتور ايلينوي تكلم قبلها أمام اللجنة خلال اجتماعها السنوي، ودافع في خطابه بقوة عن بقاء القدسالمحتلة «عاصمة موحدة» لإسرائيل، ما أثار استياء الفلسطينيين، ولقي ترحيب القيادات الإسرائيلية. ويبدو أن الديمقراطيين في وضعية جيدة لكي يفوزوا بهذه الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر المقبل، و بالتالي هناك إمكانية حقيقية لكي يكون على رأس القوة العظمى الغربية رجل منحدر من أصول أفريقية، وهو باراك أوباما. مرشح الحلم الأميركي من غير الإنجلوساكسون إذا أصبح أوباما مرشح الحزب الديمقراطي رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، وهزم المرشح الجمهوري جون ماكين، فسيكون هذا الحدث التاريخي -بعد أربعين سنة من إقرار القانون الذي يفرض احترام حق انتخاب السود-تتويجاً لصراع بدأ منذ حرب الانفصال في سنة 1861، من أجل الاعتراف بالكرامة للأميركيين المتحدرين من أصول أفريقية، الذين كان أجدادهم عبيداً في الولاياتالمتحدة الأميركية. ويجتهد أوباما لكي يكون مرشح الحلم الأميركي من غير المنحدرين من اصول اوروبية، أي مرشح المجتمع المتعدد الأعراق والمتكون من النساء و الرجال الأحرار والمتساوين في الحقوق والواجبات- إنه مشروع للكل الاجتماعي، لا مشروع أقليات سوداء،لا تينية أميركية، آسيوية، التي تتعرض للتأثيرات المدمرة لعدم انتمائها للمجموعة البيضاء المؤسسة والمسيطرة التي قدمت من أوروبا. في مواجهة هذا العنصرالإيجابي الذي تمثله هذه الزُنوجيّة المضطلعة و المتفوقة في آن معاً،حاولت السيناتور كلينتون و زوجها كل على طريقته إرجاع هذا السياسي الشاب إلى الغيتو الذي جاء منه.فهي تتهمه بإثارة ذكريات مارتين لوثركينغ ،متناسيا أن الرئيس الراحل ليندون جونسون،هو الذي فرض القوانين حول الحقوق المدنية،وحق الانتخاب في 1964 و1965. بكل تأكيد السيناتور باراك أوباما لاينتمي إلى هذا الإرث التاريخي، لكنه اختار أن يكون أميركيا أسود، ويربط مصيره بمصير الأقلية السوداء في الولاياتالمتحدة الأميركية. لقد اقترن ترشيح السيد باراك أوباما بحركة سياسية أكثر منه بحملة انتخابية كلاسيكية، كما تدل على ذلك الحشود، التي تحضر اجتماعاته ولقاءاته، ومن المتطوعين الذين يقدمون له العون إضافةً إلى نحو أكثر من مليون مانح صغير، وقد جيّشت هذه الحركة العديد من الناخبين الجدد للانخراط بمسار العملية الانتخابية ولاسيما في أوساط الشباب والمستقلين، ونتيجة اندفاع كهذا والمعركة المحتدمة لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي. إقبال انتخابي غير مسبوق بلغت المشاركة في الانتخابات الأولية وفي اللجان الانتخابية أرقاماً قياسية تاريخية في جميع أنحاء البلاد.ومع ذلك... يجسد ترشيح أوباما في السياسة الأميركية بالنسبة لمناصريه قوة جديدة، بشكل جذري تعلو على الذهنية الحزبية وتحث الأميركيين على طي صفحة إغلاق دائرة واشنطن السياسية. أوباما أعاد إحياء الأمل، والنضال، والإصرار السياسي التي عاشتها الولاياتالمتحدة الأميركية منذ 1968، السنة المشؤومة التي شهدت اغتيال بوب كينيدي و مارتن لوثر كينغ.ويكفي اليوم أن نرى كيف تمكن في الوقت الحاضرأوباما من صهرفي شخصيته و ترشحه مطامح هذين الشهيدين من أميركا الستينيات. و يكفي أن نلحظ كيف نجح أوباما في تحقيق معجزة موازنة منطقتين داخل كائنه، من التجربة والتاريخ للأبيض والأسود المختلطين في دمه كما في أفكاره. إن حداثة الرجل ومساره الشخصي قد أعطى المعلقين ما يكفي من المعطيات، فقد وُلِد، لأنه ولد في هاواي من أب كيني و أم أميركية بيضاء جاءت من كنساس، وترعرع أوباما في هاواي ،وأجرى دراساته العليا في كاليفورنيا «المعهد الغربي» وفي نيويورك «كولومبيا»، وبعدهما عمل كمرشد اجتماعي في أحياء السود في شيكاغو قبل حصوله على شهادة الحقوق في ولاية ماساشوسيتس «هارفارد»، وذهب في سن الرابعة والعشرين من عمره يقوم بعمل اجتماعي في جنوب شيكاغو، المنطقة المدينية الأكثر فقرا و عنفا في أميركا. إنه يحمل رسالة لكنه ليس مهندسَ الحزب الديمقراطي الحديث... فإلى جانب ما هو جديد يستعيد ترشيحه سلسلةً من المواضيع الديمقراطية التي أصبحت تقليديةً، إذ انه منذ نهاية القرن التاسع عشر وصولاً الى منتصف القرن العشرين، تحددت هوية الحزب الديمقراطي عبر معارضته تركز السلطة والمال في المجتمع الاميركي. صراع مرشحي الشعب والشركات الكبرى فالمرشحون الديمقراطيون لمنصب الرئاسة ومن بينهم ويليام جينينغز براين 1896-1900،وتوماس ودرو ويلسون1912 – 1916،و فرانكلين روزفلت 1932 1944- ،وهاري ترومان 1948، قادوا حملتهم من أجل «الشعب» وضد مصالح المجموعات، وكانت نظرتهم الاستفتائية للسلطة السياسية تتوقع من «الناس العاديين» ان يحكموا أنفسهم مباشرةً او بأكبر قدر ممكن من الحكم المباشر وكانوا يعتبرون مجموعات المصالح فاسدة وجشعة فقد كانوا يدينون تمركزالسلطة بيد الرأسماليين،الذين يُشارإليهم بعبارة «الاحتكارات» أو«الشركات الكبرى». القضية التي تواجه أوباما هي المسألة العرقية في الولاياتالمتحدة الأميركية ،وقد عمدت صحيفة واشنطن بوست إلى الكشف عن العديد من الممارسات العنصرية التي تعرضت لها حملة السيناتور أوباما في الكثير من الولايات، من حرق للعديد من المراكز الانتخابية في ولاية انديانا، إلى الهجوم على البعض منها بالقنابل، رغم التزام قادة الحملة الصمت ازاء تلك الممارسات بسبب عدم اذكاء تلك المشاعر. خطاب المرشح الديمقراطي أوباما يأخذ بعين الاعتبار - الحقيقة التاريخية للعنصريّة الأميركية - لكنه يسعى إلى بلورة مشروع طمو ح أيضاً يتخطى هذا التاريخ الطويل من الانقسام العرقيّ، وحلّ هذه المشكلة في القرن الواحد والعشرين، بعد أن كانت مهيمنة، بحسب وليم إدوارد بورغهارت دو بوا، على القرن العشرين، وهو ما يضفي على حملة السيد أوباما كل أهميتها. فالتغيير على هذا الصعيد ليس أيديولوجياً (ويكاد يتطابق السيّد أوباما والسيّدة هيلاري كلينتون كليهما على هذا الصعيد؛ لأنّه لو كان الناخبون الديمقراطيّون يبحثون عن تغييرٍ للتوجّه الأيديولوجيّ، فسيكون السيّد جون إدواردز هو مرشّحهم)؛ بل هو تغييرٌ ثقافيّ. تجسيد الحلم وهكذا فإنّ انتخاب أشخاصٍ من العرق الأبيض يؤكّدون على أنّ «العرق لا يهمّ!» هو أمر، وانتخاب شخصٍ من العرق الأسود هو أمرٌ آخر أكثر إقناعاً.. ومن ميّزاته أنّه لم يعد المهم هو التصريح به، بل أنّ هنالك ضرورة لتجسيده. لكنّ وحده انتخاب رجلٍ من العرق الأسود قد يشكّل خطوةً كبيرة إلى الأمام للانتصار على العنصرية. مع ذلك يحاول المرشح أوباما التقليل من أهمية هذه المشاعر العنصرية العدائية تجاهه رغم قناعته المسبقة بأنها ستكون الفيصل في مواجهاته مع ماكين في شهر نوفمبر المقبل. لهذا نراه متمسكاً في خطابه للأميركيين بالقول: «لقد خضت حملة انتخابية منذ خمسة عشر شهراً في جميع الولايات الأميركية تقريباً ولم ألق إلا التشجيع المفعم باللياقة ولطف وكرم الشعب الأميركي الذي منحني ثقته بمختلف شرائحه وتنوعه». يجمع علماء الاجتماع وفي مقدمتهم أستاذ العلوم السياسية الان ابراموفيتز، على أن سياسة التمييز العنصري قد تراجعت كثيراً في الولاياتالمتحدة لكنهم يقرون أيضاً باستمرار وجود ما يطلقون عليه «العنصرية الرمزية» المتمثلة في اعتقاد الكثير من الأميركيين بأن بؤس نظرائهم السود مرده إلى كسلهم وانعدام الطموح في أصل تربيتهم وليس إلى التمييز العنصري الذي تمت إزالة مظاهره قانونياً من المجتمع. ويرى فرانك ريتش بأن العنصرية قائمة أساساً في صفوف الحزب الديمقراطي نفسه أوباما هو السناتور الأسود الوحيد من أصل 247 عدد مقاعد الحزب الديمقراطي في الكونغرس، وهو ثالث سيناتور أسود في تاريخ الولاياتالمتحدة التي تعتقد بأن التمييز العنصري قد أزيل منها منذ القرن الماضي. لقد أوضح كيفين فيليبس مستشار الرئيس نيكسون العام 1970 تلك الظاهرة بالقول: «كلما ازداد عدد الناخبين السود في أوساط الحزب الديمقراطي انزلق العنصريون منه إلى أوساط الحزب الجمهوري». وبالمناسبة، فإن كولن باول ورايس ليسا منتخبين بل تم تعيينهما من قبل الرئيس المنتخب. أما مسألة الوصول الى البيت الأبيض فثمة مدرستان أو رؤيتان لهذا الأمر: هناك مَنْ يرى بأن الولاياتالمتحدة لا تزال بلداً منغلقاً ومحافظاً وغير مهيأ لرؤية رئيس خارج السياق العام. وآخرون يرون بأن الأفكار التي طرحها السيناتور أوباما وصدقه في إجراء اصلاحات جوهرية والكاريزما التي يتمتع بها كافية لخلق تحالف من حوله يتجاوز الأحكام المسبقة ويمضي به إلى البيت الأبيض رغم كل المصاعب الجدية التي تعترض سبيله. *كاتب من تونس