كانت كل المؤشرات ترجح فوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية التي كشفت عن اسم الفائز منذ الساعات الأولى من صباح الأمس. كان دائما الأفضل سواء تعلق الأمر باستطلاعات الرأي أو مساندة الشخصيات المهمة له من عائلته السياسية أو من المستقلين وحتى من الحزب الجمهوري. كان وبشهادة المهتمين قد قام بحملة انتخابية أفضل بكثير من منافسه المرشح الجمهوري جون ماكين من حيث الإمكانيات المادية ومن حيث الإستراتيجية المعتمدة لغزو البيت الأبيض. استفاد باراك أوباما دون شك من فترة حكم الرئيس الجمهوري جورج ولكر بوش. فقد اعتبر جورج بوش أقل شعبية من بين الرؤساء الذين تداولوا على البيت الأبيض رغم أن حكمه دام مدتين رئاسيتين متتاليتين. كما أن رصيد الرئيس بوش على مستوى السياسة الخارجية لم يكن إيجابيا في حين زادت الأزمة المالية التي تعصف بالولاياتالمتحدة وتوسعت إلى عدة أنحاء من العالم الرأسمالي الأمور تعقيدا بالنسبة للجمهوريين. رغم كل ذلك فلم يكن ليجرؤ أحد على القول أنه لا يمكن هزم المرشح الديمقراطي. بضع ساعات قبل الحصول على نتائج الإنتخابات الأولية والمحللون السياسيون في مختلف القنوات التلفزيونية يضعون مسألة فوز باراك أوباما كفرضية قوية لكنها تبقى قابلة للخطأ. الكل كان حذرا لأن الإنتخابات الأمريكية تظل تحتفظ بسرها إلى الدقائق الأخيرة قبل بداية ظهور النتائج الأولية ثم لأن باراك أوباما كان ذلك المرشح الاستثنائي الذي يمكن للمؤشر الواحد أن يخدمه وأن يكون عاملا ضده في ذات الوقت. ما فتئت تؤكد مختلف استطلاعات الرأي فوز باراك أوباما في هذه الإنتخابات. تتراجح أحيانا النقاط الفاصلة بينه وبين منافسه الجمهوري وترتفع في أحيان أخرى لكن في كل المرات تكون نتائج الاستطلاعات لفائدته. إلا أن تاريخ الإنتخابات الأمريكية يحتفظ بأمثلة تؤكد أن نتائج استطلاعات الرأي لا تكون دائما صحيحة تماما. بيل كلينتون مثلا لم تكن استطلاعات الرأي منصفة معه إلا في مرات قليلة. لذلك ولئن كانت هذه النتائج من بين العناصر المطمئنة للشق الديمقراطي في هذه الإنتخابات فإنهم كانوا يتعاملون معها بحذر للأسباب التي ذكرنا وبقي الحذر موجودا حتى في الدقائق القليلة التي سبقت بداية ظهور النتائج الأولية. الكل يعلم من جهة أخرى أن باراك أوباما ينتمي إلى الأقليات بأمريكا. فإن كانت والدته أمريكية من الجنس الأبيض فإن والده كينيا أي من افريقيا السوداء. ويعتبر الإنتماء العرقي لباراك أوباما سلاحا ذو حدين. يكون عاملا لصالحه إذا ما آمنا بأن المجتمع الأمريكي قد تغير بالقدر الذي يسمح له بغض الطرف عن لون بشرته والقبول برئيس من السود لأول مرة في التاريخ. كما كان من الممكن أن يقلل هذا العامل من حظوظه إذا ما أظهر المجتمع الأمريكي عدم قدرته وعدم استعداده النفسي لقبول رئيس من الأقليات. وللمجتمع الأمريكي تاريخ في التعامل مع الساسة السود. التغيير المنشود باراك أوباما مازال شابا وهذا عامل أيضا يمكن أن يكون لصالحه وأن يلعب ضده أيضا وعندما يكون المرء لم يبلغ بعد الخمسين من عمره في انتخابات رئاسية في بلد كبير كالولاياتالمتحدة وأن لا تتجاوز خبرته في السياسة بضعة سنوات فإن ذلك ينظر له من زاويتين متقابلتين. ورغم أن باراك أوباما ليس المرشح الأول في تاريخ الإنتخابات الأمريكية الذي تولى هذا المنصب قبل الخمسين من عمره (كينيدي مثلا وبيل كلينتون أيضا وغيرهما) فإنه يختلف عن سابقيه بقلة عدد السنين التي قضاها في الحياة السياسية قبل أن ينخرط في سباق الرئاسة. بيل كلينتون مثلا الرئيس الديمقراطي السابق كانت قد سبقته عشرات السنين في ممارسة العمل السياسي قبل أن يترشح لنفس المنصب ومع ذلك فإن خصومه لم يترددوا في توظيف مسائل على غرار صغر السن وقلة الخبرة كعوامل ضده. والأكيد أن من تابع الحملة الإنتخابية لباراك أوباما وخصمه جون ماكين قد لاحظ التركيز بحدة على عامل السن وقلة الخبرة خاصة في مجال السياسة الخارجية وهي عناصر استعملها خصوم المرشح الديمقراطي حد النخاع. بالتوازي مع ذلك استطاع المشرفون على الحملة الإنتخابية للمرشح الديمقراطي عكس الهجومات وتقديم عامل السن والشباب على أنه رمز للتغيير. وقد أظهر باراك أوباما بفضل ما يتمتع به من حماس وجلد وطاقة قدرة كبيرة على التحدي وتحويل ما يعتبره خصمه نقيصة إلى عامل لصالحه فأصبح باراك أوباما ملجأ الكثيرين من الأمريكيين الذين أرهقتهم فترة حكم الجمهوريين. ونستطيع أن نقول أن الناخب الأمريكي باختياره التصويت بكثافة لصالح أوباما لم يعاقب المرشح جون ماكين بقدر ما أظهر ضيقه بحكم الجمهوريين. لم يكن الناخب الأمريكي على استعداد لخوض مغامرة جديدة مع الجمهوريين خاصة أن حصيلة حكم الرئيس بوش الإبن لا تحتاج لكي يتناقش حولها اثنان. لم يكن جون ماكين يجسم في نظر الناخب الأمريكي التغيير المنشود حتى وإن ركز المرشح الجمهوري حملته الإنتخابية على التغيير كما أنه هرع إلى تعيين نائبة له تهيأُ له على ما يبدو أنه سيحقق من خلالها عدة أهداف في مرة واحدة. فهي شابة (45 سنة) ولم يكن لها حضورا ملحوظا على الساحة السياسية قبل بضعة أعوام وهي كذلك من المحافظين المتزمتين فلا ننسى أن جون ماكين تصفه عائلته السياسية بأنه أكثرهم توجها نحو اليسار طبعا في حدود الحزب الجمهوري ثم هي امرأة وفي صورة انتصار المرشح الجمهوري فإنها تصبح أول امرأة تنتخب نائب رئيس في تاريخ الإنتخابات الأمريكية. كلها عوامل انتظر جون ماكين أن تجلب له أصوات الناخبين الذين اعتقد أن السيدة سارة بالين قادرة على تحويلها عن المرشح الديمقراطي. وهو ما لم تنجح فيه الحاكمة الجمهورية رغم محاولاتها الكثيرة ورغم حدة مهاجماتها للمنافس الديمقراطي. تجاوز المرحلة بسلام تجاوز باراك أوباما هذه المرحلة بسلام ولم ينتصر فحسب على منافسه الجمهوري بل اعتبر فوزه تاريخيا. لم يكن ذلك فقط على مستوى اختيار الناخب الأمريكي لأول مرة في تاريخه رئيسا له من غير البيض وإنما من حيث النسبة التي تحصل عليها في الإنتخابات الشعبية ومن ورائها عدد أصوات كبار الناخبين. فقد أكدت مختلف المصادر ساعة الإعلان عن الفوز الرسمي لباراك أوباما بالإنتخابات أنه حقق أفضل نسبة من الأصوات في تاريخ الديمقراطية الأمريكية. وإذا ما عدنا إلى الحملة الإنتخابية للطرفين فإنه يمكن القول أن تفوق باراك أوباما كان واضحا في أغلب الأحوال. حتى أن اختياره لنائب من البيض ومن ذوي الخبرة خاصة في السياسة الخارجية (جو بيدن) عزز من حظوظ فوزه في هذه الإنتخابات. لا ننسى بعض العوامل الأخرى خاصة منها ما هو ذاتي. باراك أوباما شد الناخب الأمريكي لما يتمتع به من كاريزما ومن قدرة على المواجهة والشجاعة. هل كان يمكن أن يقدم على هذه المغامرة من كان في ظروفه يعني من كان في عمره ومن كان ينتمي إلى جنس مختلط ما بين البيض والسود ومن كان قبل حوالي أربع سنوات تقريبا من المغمورين، هل كان سيجرؤ على مواجهة جون ماكين الذي يحمل ماض كبير وخبرة سياسية تعد بالعقود وهل كان سيجرؤ على مواجهة السيدة هيلاري كلينتون التي توصف ب"الماكينة " السياسية في الإنتخابات التمهيدية بالحزب الديمقراطي، هل كان سيجرؤ على ذلك من كان لا يتحلى بالثقة في النفس وبالشجاعة الكافية؟ صحيح لا ينبغي أن ننسى الجهاز الكبير الذي كان وراءه أي الحزب الديمقراطي واللوبيات التي راهنت عليه لكن هذا لا ينقص في شيء من قيمة الرجل. لقد فاز باراك أوباما بالسباق ووصل إلى البيت الأبيض كأول رئيس أسمر في تاريخ الولاياتالمتحدة. المهم الآن أن يكسب الرهان الموالي. فما حصل عليه أوباما ليس هدية ولكن مهمة رئيس الولاياتالمتحدة هي في الأصل ليست هينة فما بالك وهو يتسلم الأمانة وبلاده على ما هي عليه من أزمة اقتصادية إضافة إلى سياستها الخارجية المتعبة وسمعة الولاياتالمتحدة التي ما فتئت تتآكل في العالم، أضف إليه تلك الآمال التي بناها أصحابها على رجل من المفروض أن كل ما يحيط به يدفع للتفاؤل بشأن بعض العدالة مستقبلا في سياسة الولاياتالمتحدة خاصة إزاء بعض القضايا العالقة بالخارج ومن بينها الصراع العربي- الإسرائيلي، الأمر الذي يعنينا بدرجة أولى.