الذكرى عزيزة عليّ أكثر من أي أحد ، والحركة الإسلامية مولود شاركت فيه بقلبي وعقلي ووقتي وجهدي ، وغذوته ومنته حتى شب وكبر ، وحرصت على أن يكون صالحا راشدا متطورا متوسعا في الاتجاه الصحيح مؤثرا في واقع البلد : إشاعة للقيم والأخلاق ووصلا للبلد بتاريخه وحضارته وإنقاذا له من التغريب والإلحاق الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، وإرساء لقيم الشورى والديمقراطية والحكم الرشيد. وتحقيقا لتنمية تقوم على العدل والإنصاف وتقديس العمل وخدمة الناس. ولقد كانت السنوات الأوى التي امتدت من أواخر الستينات إلى أوائل الثمانينات سنوات التجريب والتدريب والتكوين والإعداد وشيء من التخطيط ، فيها حركة كثيرة ونشاط كبير وتوعية متطورة : "محاضرات ودروس وندوات وحلقات ذكر وأخرى للتكوين في المسجد والجامع والمعهد والكلية". وتوسع النشاط بشكل سريع ، وكانت للإسلاميين مناطق احتكاك وصولات وجولات ، خاصة في المعاهد والجامعة ثم في النقابة حيث كان اليسار مهيمنا. كما كان للإسلاميين تفاعل متنام مع الواقع الاجتماعي والسياسي يشهد على ذلك منشوراتهم من المعرفة إلى المجتمع إلى الحبيب ، ودور نشرهم "الراية – الهدى – الجديد". ويمكن أن نذكر على سبيل المثال -دون توسع- الموقف من الوحدة التونسية الليبية في سنة 1974 -والموقف من أحداث 77-1978- والموقف من أحداث الحرم في السعودية والتفاعل القوي مع الثورة الإسلامية في إيران سنة 78-1979 وما تلاها. وقد كان لذلك التوسع العددي السريع ، وذلك الحضور المطرد في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية للبلاد. وذلك صراع القوي مع البعث والقوميين واليسار في المعاهد والجامعة. كان لذلك دور كبير في تطور الأفكار ووجهات النظر داخل الحركة الإسلامية. كما كان للتوسع والحضور القوي دور في تنبيه السلطة إلى خطر هذا الفاعل الجديد لذلك بدأ التفكير في إيقاف هذا المد مبكرا. فلم تكد تدخل عشرية الثمانينات حتى وقع إقرار قانون المساجد سعيا لحرمان الحركة الإسلامية من فضائها الحيوي وهو الجامع ، بحجة عدم توظيف المساجد للدعاية السياسية ، وتلا ذلك مصادرة نشرياتها الواحدة تلو الأخرى : "المعرفة" ثم "المجتمع" ثم "الحبيب". وفي سنة 1981 وعندما أعلنت الحركة الإسلامية عن ميلاد "حركة الاتجاه الإسلامي" وطلبت تأشيرة في ذلك انسجاما مع قانون الأحزاب الجديد كان جواب السلطة حملة الاعتقالات ثم المحاكمة السياسية لقيادة الحركة وكوادرها المركزية والجهوية. وبدأت مع ذلك مرحلة جديدة تقوم على التشابك والتدافع العنيف واستمرت هذه المرحلة عشرين سنة. وسأحاول أن أقف بشيء من التحليل عند حدث الإعلان باعتباره مرحلة مفصلية في تاريخ الحركة الإسلامية. أ/ هل كان الإعلان عن "حركة الاتجاه الإسلامي" (في 6 جوان 1981) حدثا مسقطا بدون مقدمات. أم كان تطورا طبيعيا واستجابة موضوعية للنمو والتطور الذي شهدته الحركة الإسلامية. ب/ كيف تفاعل الإسلاميون مع هذا الحدث فهما وتنزيلا ؟ ج/ كيف كان رد فعل السلطة وبقية الفرقاء السياسيين ؟ لا شك أن عشرية السبعينات كانت مهمة جدا في تاريخ تونس الحديث فهي التي شهدت : 1/ حراكا قويا في الجامعة يتمثل في هيمنة اليسار والبعث والقوميين ونجاحهم في إخراج الحزب الحاكم من الجامعة وصناعة نخبة يسارية متغولة في الثورية وتجرئة الطلاب على الدولة ومؤسستها الأمنية وشهدت تلك السنوات أوسع الإضرابات وأعنفها وحركة ثقافية نشيطة كان مراجعها "شيقيفارا" و "ألنبي" و "أنور خوجة" و "لينين" و "ماركس" و "ماوتس تونغ" و "جياب" و "هوشي منه" و "كاسترو" و "عبد الناصر" ثم "القذافي" ثم ظهر الإسلاميون من خلال الندوات والمحاضرات الثقافية أولا ثم المشاركة في الحياة النقابية الطلابية والتجمعات والاجتماعات العامة لاحقا وبدؤوا شيئا فشيئا يأخذون مكانهم بشيء من الجهد لأنهم لقوا مقاومة وصدا عنيفا من اليسار وغيره ولعل ذلك الصراع الفكري والميداني هو الذي ساهم في تكوين نخبة متوسعة اطرادا من الفعاليات الإسلامية التي ستصبح مع الزمن في المواقع الأولى في الحركة الإسلامية الناشئة. كما أن هؤلاء الطلبة هم الذين سيؤسسون ويطورون العمل داخل البلاد من خلال المعاهد. 2/ حراكا سياسيا مطردا في الحياة العامة للبلاد ساهم فيه بشكل واضح الأزمة داخل الحزب الاشتراكي الدستوري التي بدأت بإقالة أحمد بن صالح ومحاكمته وفراره. ثم بخروج الأستاذ أحمد المستيري وجماعته من الحزب الأوحد في سنة 1973 وقناعتهم بضرورة العمل على التعدد ، ولابد من الإشادة والتأكيد على الجهد الذي بذله أحمد المستيري وحسيب بن عمار والدالي الجازي وحمودة بن سلامة ومحمد مواعدة وإسماعيل بولحية وغيرهم في صناعة وضعية جديدة ستكون أرضية صالحة لتشكل حركات سياسية وأحزاب تبدأ غير شرعية ثم تفتك شرعيتها وتفسح المجال أو تجرئ غيرها على ذلك. 3/ حركة اجتماعية متطورة كان الاتحاد العام التونسي للشغل أهم فاعل فيها وقد كان لنقابة التعليم العالي ونقابة التعليم الثانوي أثر واضح في تطوير الاتحاد من حيث أطروحاته وأشكال نضاله وقد انتهى إلى الاستقلال عن الحزب الذي كان مهيمنا ثم إلى الدعوة إلى الإضراب العام في سنة 78 وما ترتب عليه من إنزال الجيش إلى الشارع وإطلاق الرصاص وسقوط الضحايا ثم تدجين الاتحاد العام التونسي للشغل وإعادته إلى حضيرة الحزب الحاكم وزج القيادات النقابية في السجون وعلى رأسهم الزعيم المرحوم الحبيب عاشور. ولكن الحركة الاجتماعية لم تتوقف بل تطورت وإن بدا أن النظام هيمن عليها. 4/ حركة ثقافية وإعلامية متحركة ومتطور كان أهم فاعل فيها جريدة "الرأي" و "الشعب" و "المغرب Le Maghreb" و"المعرفة والمجتمع والحبيب" الناطقة باسم الإسلاميين ومسرح متطور وحركة نشر ومعارض كتاب وغير ذلك مما ساهم في صناعة وعي جديد يريد أن يقطع مع وضعية وعقلية الحزب الواحد ويؤسس لتعددية سياسية وحراك حقوق وحرياتي يتوافق مع التطور الذي شهدته البلاد. 5/ يضاف إلى هذه العوامل الداخلية عوامل أخرى خارجية تتمثل أساسا في : - حدث الوحدة مع ليبيا التي لم تستمر إلا يوما واحدا - أزمة العرب مع أوربا وأمريكا نتيجة دعم هؤلاء "لإسرائيل" واغتيال الملك فيصل ملك السعودية. - حرب العرب مع إسرائيل في سنة 1973 وما سمي بمعركة العبور وقمة اللاءات في الخرطوم. - الثورة الإسلامية في إيران وما صنعته من مثال خاصة في صفوف الطلاب. إن هذه العوامل مجتمعة وما شهده الإسلاميون من تفاعل مع هذه العوامل. يضاف إليه التوسع السريع للحركة الإسلامية وما ترتب عليه من يقظة السلطة وانتباهها لخطر هذا الفاعل الجديد الذي ظنّ أنه غير منظم ولا مهيكل فإذا به كذلك ثم انتباه قيادات الحزب القديمة وعلى رأسها بورقيبة إلى طبيعة الفاعل الجديد أي الحركة الإسلامية ومناقضتها للمشروع الحداثي الذي بشر به وعمل على تنشئة الجيل الجديد عليه من خلال التعليم أساسا والثقافة والإعلام معاضدة. كل هذا جعل المواجهة واردة بين الدولة والحركة الإسلامية الناشئة – ثم إذا أضفنا إلى ذلك الحركة اليسارية والبعثية والقومية التي اختارت منذ أواخر الستينات سلوكا جديدا يقوم على المزاوجة بين المعارضة الراديكالية من خلال النقابات والتعليم والجامعة والاندساس داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها وتوظيفها لتنفيذ برامجها من ناحية واستخدامها من ناحية أخرى لإعاقة الخصم الاديولوجي الجديد الذي بدأ ينافسها في الجامعة والثانويات والنقابة أي فضاءاتها الحيوية التقليدية التي هيمنت عليها لسنوات طويلة بدون شريك ولا منافس. أمام هذه التطورات واستجابة لمقتضيات النمو الطبيعية وتوقيا من الهجمة المحتملة سارعت الحركة إلى الاستجابة لدعوة النظام الجديدة والعلنية في امكانية قيام تنظيمات سياسية مستقلة عن الحزب أي الانتقال إلى وضعية التعددية السياسية وقد يكون التنبيه مفيدا إلى أن الوزير الأول الأسبق محمد مزالي كان مقتنعا بضرورة ذلك واستعمل نفوذه وحضوته لدى بورقيبة لنقل البلاد إلى هذا الوضع الجديد القائم على التعددية وقد يكون مقتنعا بضرورة إيجاد توازن في المجتمع بين يمين ويسار كما أن الأحداث والتطورات المتسارعة التي شهدتها البلاد في أواخر السبعينات كانت تقضي بضرورة ذلك عند السياسي النابه. إذا بادرت الحركة إلى ملاءمة الوضع الجديد وعقدت ندوة صحفية أعلنت فيها عن قيام "حركة الاتجاه الإسلامي" وطلبت تأشيرة في ذلك. ولكن هذه الحركة (التصرف) الطبيعية حسب ظني لم تستوعب بنفس القدر والحماس لدى فعاليات الحركة وكوادرها ولم تأخذ حظها من النظر رغم أنها خيار منبثق عن مؤتمر ويمكن أن نقول إن عددا كبيرا من الكوادر خاصة الطلابية والتنظيمية منها لم تقبل بهذا التمشي ولم تستوعبه الاستيعاب المطلوب وبقيت متعلقة ومشدودة إلى الإرث التنظيمي ومنطق السرية الذي كان مهيمنا. وهو ما جعل الحوار يستمر بعد ذلك حول السرية والعلنية وجدوى الإعلان ثم جاءت الاعتقالات والمحاكمات فدعمت حجة المعترضين رغم أن تلك الاعتقالات كانت شبه حتمية لأن النظام كان يتحفز لذلك بغرض تأديب هذا الفاعل الجديد أي الحركة الإسلامية الذي كان يمثل اعتراضا وتحديا لبورقيبة وخياراته الحداثية ودخل فعلا في حركات احتجاجية قوية لعل أشدها وأكثرها دلالة الحركة الاحتجاجية التلمذية والطلابية التي كان احتجاز عميد كلية العلوم في ذلك الوقت أكبر تعبير عليها. ولنا أن نتساءل هل يمكن لسلطة ونظام قائم على الفردية والزعامة والامتلاء بالمشروع الحداثي أن يقبل بتحدي فاعل جديد نجح في سنوات قليلة في زعزعة مقومات الدولة الحديثة. كما لنا أن نتساءل أيضا عن درجة النضج التي كانت تطبع تصرفات قيادات حركة الاتجاه الإسلامي وفعالياتها في ذلك الوقت المبكر وهل كانت مدركة لطبيعة التوازنات وقادرة على ضبط النفس وواعية بطبيعة بورقيبة ونظامه ومقدرة لتداعيات سلوكياتها على الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في ذلك الوقت المبكر. ويحسن – من باب الاعتبار – فهم عملية الاشتباك الأول (اشتباك 81) وكسب الحركة الإسلامية فيها (مسؤوليتها) لنكون قادرين على متابعة "المسلسل" بدون انفعال أو على الأقل بقدر معقول من الانفعال الواعي. لقد حاولت أن أبين أن الحركة الإسلامية أو "حركة الاتجاه الإسلامي" الوليد الجديد لم تدرك بشكل جيد صعوبة هذه الخطوة بالنسبة لبورقيبة ونظامه وإن كانت من الناحية الموضوعة سلوكا راشدا ومتلائما مع اللحظة التاريخية في ذلك الوقت واستجابة واعية لدعوة النظام الجديدة في قبوله بالتعدد. لكن سلوكها السابق لخطوة الإعلان وتحديها للنظام في المسجد والجامع والمعهد والجامعة وظهورها بمظهر الحركة المنظمة والقادرة على تحريك الشارع أو استغلاله وقيامها على معارضة الخيارات البورقيبية الحداثية. كل هذا استفز السلطة واستعداها فلم يتردد بورقيبة في اتخاذ القرار والأمر بالقيام بالحملة مستهدفا بالأساس القيادة في مستواها الجهوي والمركزي تأديبا لها على التحدي وإيقافا لتوسعها وإن كانت هذه العملية جاءت في بداية عهد الوزير الأسبق محمد المزالي الذي جاء مبشرا بالتعددية وراغبا في إزالة أسباب التوتر السياسي والاجتماعي وهو ما جعله يجتهد في حل المشكلة بعد ذلك فلم تكد تنتهي المحاكمة حتى بدأت الاتصالات والوساطات لإنهاك التشابك وهو ما يفرض الاعتبار. ثم الإقرار بأن الإسلاميين لم يحسنوا التعامل مع الواقع والاستفادة من الفرص المتاحة وترك الانفعال والتأثر بالأمزجة. ورغم أنهم أعلنوا عن مكتب سياسي يكرس العلنية بعد الاعتقالات الأولى – لكنهم لم يلبثوا أن انكفأوا على أنفسهم فحرموا من فرصة تثبيت أنفسهم كحركة سياسية – كما أنهم لم يستفيدوا من الفرص التي أتاحها لهم الوزير الأول الأسبق محمد مزالي. وبقي يتنازعهم خياران متناقضان : - العلنية وما تقتضيه من حضور وسلوك وتدرج في الواقع السياسي يطبع الوجود ولا يخيف الخصوم ويهدي إلى الشرعية الواقعية وصولا إلى الشرعية القانونية. - والسرية وما تقتضيه من انكفاء على الذات وتكتم وإرهاق في الحركة وتحمل أوزار الأسرار وازدواجية مغلظة يوجه ذلك حذر شديد ومغلظ وتوجس مطرد وقد كانت الغلبة دائما لدعاة السرية فكان ذلك سلوكا غالبا حرم الحركة الإسلامية من التطور الطبيعي الموافق لحركة التاريخ وفوت عليها الفرص التي أتاحها لها الواقع السياسي. بمناسبة ذكرى 06 جوان 1981 27 جوان 2008