يمر على الإنسان حين من الدهر يحس فيه بوحدته، بصغر حجمه، بتواضع حاله، يشعر فيه بأنه ذرة في فلاة، بأنه لا شيء أمام هذا المطلق الذي يحاصره من كل جانب ويفرض وجوده عليه... تسير هذه الدنيا حالمة مستبشرة، وإذا بها تستوقف مسيرك في لحظات في محطات لتعلن لك أن دوام الحال من المحال، وأن النسبي هو ديدن البشر... في هذه الوقفات حيث يغلب الضعف كطبيعة بشرية [وخلق الإنسان ضعيفا] ويهيمن ويفيض على الأطراف، تتلهف النفس إلى حبل نجاة يعتقها من هذا الحصار ولا تجد نصيبا إلا في أهل وعشيرة وصاحبة وولد وصاحب وحيّ وقرية ومدينة ووطن... غابت عني الصاحبة والولد والأهل والعشيرة إذ كانوا في تونس وقد منعني جور الأوطان مرافقتهم..، وغابت عني مدينتي ومسقط رأسي تونس العاصمة الحبيبة، حيث منعها الاستبداد عني، وغاب عني الوطن بكل ألوانه وأطيافه وجماله، حيث أصبح ملكا مشاعا لبعض الناس ويمنعونه عن البعض الآخر، وكنت من هذا البعض الآخر... ولم يبق لي غير وجوه صادقة، وأنفس طيبة وقامات خيّرة، التجأت إليّ حبا في مواطن بلا وطن، والتجأت إليها حبا لهذا الوطن وعشقا لهذا الصنف من الناس... فكانت أمواج من الصبر والسلوان، مصافحات وهواتف ورسائل، من أقصى الأرض وأدناها [تحية خاصة إلى ساكن الصين] تعزيني في الوالد عليه رحمة الله، وتملأ وجداني بسيل من الأمل والحب والوفاء، تستدعي كل خلية في جسمي إلى مقامات رفيعة من القيم والفضائل والأخلاق الرفيعة...كنت وحيدا ولم أعد، كنت مرميا ولم أعد، كنت أنا ولم أعد... علمتني إن الخير لا شك باق إلى يوم القيامة وأنه مهما استبد الليل وهيمن كابوسه فإن الأنوار زاحفة والفجر دائما بالمرصاد! وهو عهد ومسؤولية وثبات وإخلاص يتضاعف نحو هذا الوطن، ونحو هذا الإنسان... في مثل هذه الأحوال العصيبة تحس ولا شك بمقام الأخوة، ولقاء الإخوان جلاء الأحزان كما قال عمر رضي الله عنه، وتلمس تجاوز منطق الجنس والطائفة والبلد والسياسة، وتندثر كل الخنادق ليبقى الإنسان على فطرته، ويفنى كل شيء ولا يبقى إلا الله الموحد والجامع... فإليكم جميعا أيها الإخوة الأعزاء والأخوات الفاضلات أينما كنتم، داخل الوطن الحبيب أو خارجه، شكرا متجددا، على صفاء قلوبكم ووفائكم نحو وطن جريح يبحث عن طريق، ونحو هذا الإنسان الذي كرمه الله مهما شرق وغرب إطاره، حيث الكرامة غالبة... إليكم جميعا دعوة صادقة من أخ كريم ابن أخ كريم أن لا يوجعكم الله في حبيب، وأن لا يرد دياركم مكروه، وكل العافية لكم في الأهل والمال والولد... وأجركم عند الله كبير. إليكم جميعا من أمي وأهلي ومني كل السلام والتوقير والمحبة. دمتم في حفظ الله ورعايته والسلام عليكم أخوكم خالد الطراولي