على أرصفة نهج "الصباغين" فى تونس يتصاعد - فى الاونة الاخيرة - حراك غير مألوف حيث تنشط تجارة بيع الكتب المدرسية والكراريس بأثمان يعتبرها التونسيون "منقذهم" من حمى اسعار المكتبات والفضاءات الكبرى. ويدرك المتابع للشأن التونسى مدى حرص هذه الاسر - التى تستثمر كثيرا فى تعليم ابناءها- على معالجة ادق التفاصيل والاشكالات واقتناء اللوازم المدرسية مهما ارتفعت اسعارها لضمان عودة "ناجحة" رغم اقترانها مع شهر رمضان. ويعود أكثر من ربع التونسيين أى حوالى مليونين ونصف من التلاميذ والطلبة يوم الاثنين القادم الى مدارسهم وجامعاتهم. وتصف تقارير دولية التجربة التونسية فى التعليم ب"الناجحة" حيث صنفتها الاولى على المغرب العربى فى سياسة اصلاح التعليم وتأهيله كما يتوقع منها فى هذا الصدد تحقيق اهداف الاممالمتحدة التى تتضمن الى جانب توفير التعليم للجميع عام 2015 محو الامية بمعدل النصف وضمان نوعية تعليم افضل والمساواة بين الذكور والاناث فى التعليم. وكشف التقرير ايضا أنه لا علاقة بين متوسط دخل الفرد ونجاح الأهداف التعليمية، فتونس رغم تدنى متوسط دخل فردها مقارنة بالجزائر والسعودية فقد كانت نتائجها افضل منهما بكثير. واعتبرمسؤولون تونسيون ان السلطة اتخذت من الرهان على العلم والمعرفة توجها ثابتا وجوهريا فى سياستها التى تخصص القسط الاوفر من ميزانيتها لهذا القطاع الاستراتيجى وتجعل منه على صعيدى الخطاب السياسى والفعل التنموى أولوية مطلقة من باب ان الموارد البشرية هى ثروة تونس الأساسية وسبيلها لمقارعة تحديات العصر. وتخصص تونس نحو 20 بالمئة من مزانيتها للمشروع التربوى الذى بات شغلها الشاغل نظرا للاعتمادها الكلى على رأس المال البشري. وترى العديد من الدول العربية والافريقية فى النظام التربوى التونسى نموذجا جديرا بالاهتمام مقارنة مع البلدان الشبيهة بتونس، اذ يرجع خبراء النتائج التى حققتها تونس فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية إلى أداء النظام التربوى ومردوديته. ويربط اقتصاديون بين هذا الأداء وبين اتساع الطبقة الوسطى حيث مثل التعليم بالنسبة لمختلف الفئات الاجتماعية "آلية" متميزة للارتقاء الاجتماعى فساهم فى تعزيز حظوظ أبناء الفئات المتوسطة والضعيفة فى تسلق الهرم الاجتماعي. فمكونات الفئات الوسطى - حسب رأيهم – هى الان من الكوادر العليا فى الإدارة ورجال التعليم كما ان الأطباء والمحامين والمهندسين هم فى أغلبهم من أبناء العائلات المتواضعة التى استثمرت كثيرا فى التعليم. وتفيد الدراسات الاحصائية فى هذا الشأن اتساع قاعدة الطبقة الوسطى الى حوالى ثلثى المجتمع، كما ارتفع الدخل الفردى إلى حوالى 3300 دينار وفى المقابل ارتفعت نسبة التعليم إلى 99 بالمائة. وتبدو المرأة التونسية الأكثر استفادة من تعميم التعليم واجباريته حيث تمثل اليوم 54 بالمائة من طلاب الجامعات و35 بالمائة من الأساتذة الجامعيين كما تمثل ثلث القوى النشيطة فى مختلف الميادين وتمكنت من اكتساح مواقع قيادية فى مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها. ويشتكى بعض التونسين من غلاء الكتب والكراريس التي"تأكل" معظم رواتبهم. ورغم ذلك يعتبر الملاحظون ان التونسى "استهلاكي" بشكل ملفت للنظر رغم الظرڧية الدولية الاقتصادية والسياسية الضاغطة، وما اتّسمت به من تقلّبات حادة، من مظاهرها ارتڧاع أسعار المواد الأوليّة ڧى الأسواق العالمية وبخاصة أسعار المحروقات. وأظهرت بيانات إحصائية رسمية أن مؤشر أسعار الإستهلاك العائلى للمواد الغذائية فى تونس سجل خلال الأشهر الثمانية الماضية إرتفاعا بنسبة 7.3% . وذكرت البيانات التى تضمنها تقرير للمعهد الوطنى التونسى للإحصاء"مؤسسة حكومية" ، فإن هذا التطور ساهم فى إستقرار نسبة التضخم خلال الفترة المذكورة فى مستوى 5.4% . وفى هذا السياق أعلنت تونس عن سلسلة من الإجراءات والمساعدات لفائدة فئات عديدة لمساعدتها على اجتياز شهر رمضان فى أحسن الظروف، وهو الشهر الذى يعرف فيه الاستهلاك ذروته. ومن بين الإجراءات التى تم اتخاذها صرف منح الإنتاج قبل الوقت المحدد لفائدة موظفى الدوائر الحكومية، وهو إجراء سيستفيد منه أكثر من مليونى مواطن، فضلا عن صرف منحة مالية على الزيادات فى الأجور. كما قررت السلطة التونسية مساعدة آلاف العائلات محدودة الدخل على مجابهة أعباء العودة المدرسية والجامعية. ويعترف مراقبون ان فى هذه الخطوة مراوحة بين سياستين، الاولى تعزز البعد الاجتماعى من خلال التركيز على قيم التكافل والتآزر، أما الثانية فهى تؤكد توجه تونس كليا نحو الاستثمار فى مجتمع المعرفة. وفى المقابل يتخوف الخبراء من ارتفاع نسب التمدرس فى التعليم العالى وفى عدد حاملى الشهادات العليا الذى أدى الى تفاقم مشكلة البطالة إذ من المتوقع ان يرتفع عدد الطلبة من 360 الف طالب وطالبة حاليا الى 500 ألف فى أفق 2009 . وتعتبرهذه النسب تحديا كبيرا يواجه الاقتصاد التونسى فى ظل بروز ما أصبح يعرف ببطالة أصحاب الشهادات العليا وهو ما يجعل المسؤولية جسيمة امام المهتمين بهذا الشأن المطالبين بخلق استراتجيات سريعة وناجعة للحد من نسبة ارتفاع البطالة التى قد تقسم "ظهر" العقلية الاستثمارية فى تونس.