قدر حجم ميزانية الحكومة للسنة المقبلة (2009)، بنحو 17,2 مليار دينار تونسي، وهو حجم غير مسبوق في تاريخ الميزانيات الحكومية.. وتهدف هذه الميزانية، المتأتية من نحو77% من الموارد المحلية (الضرائب والأتاوات المختلفة)، و23% من الاقتراض من السوق الداخلية بالأساس، إلى تحقيق نسبة نمو بحوالي 6,1% خلال العام 2009، مقابل 5,1% مقدّرة لميزانية العام الجاري، إلى جانب حصر نسبة التضخم في حدود 3,5 % بعد أن تجاوز الأربع بالمائة خلال الفترة الماضية بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية عالميا وتداعياتها على الأسعار المحلية.. وتقترب النسبة المقترحة للنمو، من المعدل الذي كان تحدث عنه الوزير الأول، السيد محمد الغنوشي في الندوة الوطنية للتشغيل، حيث أوضح أن من بين الشروط الأساسية لتسريع نسق التشغيل بالكيفية التي تحدّ من البطالة المتفاقمة، هي الرهان على نسبة نمو في حدود 7 في المائة خلال الفترة المقبلة.. إجراءات ضرورية.. وذكرت معطيات رسمية، حصلت عليها "الصباح"، أن الحكومة قررت في هذا السياق، تخصيص نحو 890 مليون دينار لصندوق الدعم، على الرغم من الإجراءات التقشفية التي كانت الحكومة اتخذتها منذ عدة سنوات للتقليص من مجالات تدخل الصندوق في عمليات الدعم للمواد الغذائية الأساسية.. ويأتي هذا الدعم لتمكين الصندوق من المساهمة في التقليص من الارتفاع الذي تعرفه المواد الغذائية في السوق العالمية وتداعياتها على الأسعار المحلية.. كما قررت الحكومة من ناحية أخرى، رصد نحو 850 مليون دينار لدعم المحروقات، في سبيل الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين التي تشهد تدهورا غير مسبوق، وتمكين المؤسسة التونسية من أدوات جديدة للحفاظ على قدرتها التنافسية خلال العام المقبل، خصوصا في ضوء تهيؤ الاقتصاد التونسي لمرحلة الانفتاح الكامل والمنافسة الواسعة في السوق العالمية بداية من شهر جانفي المقبل.. وتشير التقديرات المالية للسنة المقبلة، إلى اتجاه الحكومة لحصر العجز الحالي في الميزانية في حدود 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك من خلال التخفيض في حجم الدين العمومي، والتعويل على السوق المصرفية المحلية للاقتراض، سيما أن تونس قررت عدم الخروج إلى السوق المالية الدولية خلال عامين.. وذكرت مصادر مطلعة في البنك المركزي التونسي ل"الصباح"، أن من بين حزمة الإجراءات التي تم اتخاذها لمواجهة الأزمة الراهنة، عدم اللجوء إلى الأسواق المالية الدولية سنتي 2008 و2009، وتوجيه عمليات توظيف العملة في البنك المركزي نحو أدوات الاستثمار الأكثر أمنا، وهي رقاع الخزينة بالأورو، وبصفة أقل بالدولار، خصوصا تلك الصادرة عن أهم الدول الصناعية والحاصل على ترقيم مالي عالي الثقة "أي.أي.أي"، بالإضافة إلى الاقتصار في تعبئة الموارد الضرورية لميزانية الحكومة على السوق المحلية بصفة استثنائية، سيما وأن الوضع الداخلي يتسم بفائض من السيولة منذ بداية العام 2008.. ويهدف هذا الإجراء إلى تجنب تأثيرات الأزمة المالية العالمية وظلالها الممكنة على السوق المالية التونسية وعلى ميزانية الحكومة.. الحلقات الأساسية للنمو وتتشكل الميزانية التونسية، من خطة تقضي بتطوير القيمة المضافة للقطاع الفلاحي بنسبة 2,8 بالمائة، بعد أن سجلت هذه النسبة تراجعا بحوالي 0,5 خلال العام الجاري، تحقيق نسبة نمو في الصناعات المعملية يصل إلى 5 في المائة، مستفيدة من المردود الهام في حجم صادرات الصناعات الكهربائية والميكانيكية.. وتضمن مشروع الميزانية للعام القادم، رغبة في تطوير حجم الاستثمار الجملي خلال سنة 2009 ليصل إلى مستوى 26,7 مقابل 25,1 في المائة متوقعة للعام الجاري.. وتتوقع الدوائر الحكومية في هذا السياق، رفع مساهمة القطاع الخاص في هذه الاستثمارات إلى مستوى 61 بالمائة بعد أن كانت تتجاوز الخمسين بالمائة بقليل خلال العام المنقضي، وسط انتقادات شديدة من الخبراء والأوساط النقابية، لوجود انكماش في مستوى استثمارات القطاع الخاص خلال السنة الجارية.. وسوف تركز الحكومة جهودها في غضون العام القادم، على تعزيز السياسة الضريبية بإجراءات يتوقع أن تكون صارمة، بغاية تعويض الدولة عن النسب الكبيرة التي لم تعد تحصل عليها، جراء إلغاء نسبة هامة من الرسوم الجمركية خلال السنوات الإثني عشر الماضية، بموجب اتفاقية الشراكة التي تربطها مع الاتحاد الأوروبي، علما أن حوالي 75 في المائة من موازنة البلاد متأتية من السياسة الجبائية المتبعة منذ سنوات عديدة.. هاجس البطالة ولمواجهة غول البطالة الذي بات يشغل الرأي العام والحكومة والأحزاب، تراهن الحكومة انطلاقا من مشروع ميزانية 2009، على توفير نحو 82 ألف فرصة عمل، أي حوالي خمس عدد العاطلين عن العمل المقدّر عددهم بحوالي 500 ألف شخص من بين السكان النشيطين، بالإضافة إلى الأعداد التي من المتوقع أن تلتحق بسوق العمل في أعقاب السنة الجامعية الجديدة.. ويرى خبراء في الحقل الاقتصادي، أن الميزانية المخصصة للعام القادم تبدو طموحة، لكنها ستواجه الكثير من المشكلات خصوصا إذا ما استمرت الأزمة المالية العالمية، وامتدت تداعياتها إلى الفضاء الأوروبي، الذي تربطه بتونس حوالي 80 بالمائة من حجم صادراتها الجملية.. في المقابل تعكس هذه الميزانية، قراءة موضوعية لتقلبات السوق الدولية، واحتمالات تداعيات الأزمة المالية العالمية على البلاد في غضون الأشهر القادمة، ممّا يفسر جانب الحذر الذي طبع تفاصيل الميزانية وحيثياتها، بغاية الحفاظ على المكاسب والعمل على تطوير ما أمكن منها، خصوصا في ضوء نتائج التقارير الدولية التي أشارت إلى خاصيات بارزة لاقتصاد البلاد قياسا باقتصاديات الدول النامية وتلك التي تصنف ضمن الدول المتقدمة، على غرار البرتغال، التي جاءت في المرتبة 43 عالميا، فيما احتلت تونس الموقع 35 فيما يخص المؤشر العام للقدرة التنافسية للاقتصاد، وهي نتائج وأرقام تستوجب درجة من الحذر للحفاظ عليها في عالم متقلب بالليل والنهار..