وفاة أول مريض يخضع لزراعة كلية خنزير معدلة وراثيا    رئيس أركان جيش الاحتلال يعلن تحمله المسؤولية عن هزيمة الكيان الصهيوني في 7 اكتوبر    يوميات المقاومة.. كبّدت قوات الاحتلال خسائر جديدة .. المقاومة تعيد تنظيم قواتها شمال غزّة    عاجل/حادثة "حجب العلم"..الاحتفاظ بهذا المسؤول..    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أمام دعوات لمقاطعتها ...هل «يضحّي» التونسي بأضحية العيد؟    سوسة حجز 3000 صفيحة من القنب الهندي وحوالي 15 ألف قرص من مخدّر إكستازي    لأول مرة منذ 37 عاما.. الرجال أكثر سعادة بوظائفهم من النساء    القيروان: غرق ثلاثة شبان في صنطاج ماء بالعين البيضاء    كرة اليد: الترجي يتفوق على المكارم في المهدية    بلاغ هام لرئاسة الحكومة بخصوص ساعات العمل في الوظيفة العمومية..    وزير الخارجية يُشيد بتوفر فرص حقيقية لإرساء شراكات جديدة مع العراق    العثور على شابين مقتولين بتوزر    باجة: اطلاق مشروع "طريق الرّمان" بتستور لتثمين هذا المنتوج و ترويجه على مدار السنة [صور + فيديو]    الجامعة العامة للإعلام تدين تواصل الايقافات ضد الإعلاميين وضرب حرية الإعلام والتعبير    حفوز: العثور على جثث 3 أطفال داخل خزّان مياه    افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك وسط العاصمة لعرض منتوجات فلاحية بأسعار الجملة وسط إقبال كبير من المواطنين    البطولة العربية لالعاب القوى (اقل من 20 سنة): تونس تنهي مشاركتها ب7 ميداليات منها 3 ذهبيات    رسمي.. فوزي البنزرتي مدربا للنادي الإفريقي    وزارة التجارة: تواصل المنحى التنازلي لأسعار الخضر والغلال    سليانة: عطب في مضخة بالبئر العميقة "القرية 2 " بكسرى يتسبب في تسجيل إضطراب في توزيع الماء الصالح للشرب    التهم الموجّهة لبرهان بسيّس ومراد الزغيدي    جربة.. 4 وفيات بسبب شرب "القوارص"    وفاة 3 أشخاص وإصابة 2 اخرين في حادث مرور خطير بالقصرين    المحكمة الابتدائية بسوسة 1 تصدر بطاقات إيداع بالسجن في حق اكثر من 60 مهاجر غير شرعي من جنسيات افريقيا جنوب الصحراء    رجة أرضية بقوة 3.1 درجة على سلم ريشتر بمنطقة جنوب شرق سيدي علي بن عون    مدنين: نشيد الارض احميني ولا تؤذيني تظاهرة بيئية تحسيسية جمعت بين متعة الفرجة وبلاغة الرسالة    سيدي بوزيد: تظاهرات متنوعة في إطار الدورة 32 من الأيام الوطنية للمطالعة والمعلومات    مؤشر جديد على تحسن العلاقات.. رئيس الوزراء اليوناني يتوجه إلى أنقرة في زيارة ودّية    شركة "ستاغ" تشرع في تركيز العدّادات الذكية "سمارت قريد" في غضون شهر جوان القادم    زهير الذوادي يقرر الاعتزال    ر م ع الصوناد: بعض محطات تحلية مياه دخلت حيز الاستغلال    في الصّميم ... جمهور الإفريقي من عالم آخر والعلمي رفض دخول التاريخ    النساء أكثر عرضة له.. اخصائي نفساني يحذر من التفكير المفرط    سيدي بوزيد.. اختتام الدورة الثالثة لمهرجان الابداعات التلمذية والتراث بالوسط المدرسي    المالوف التونسي في قلب باريس    الناصر الشكيلي (أو«غيرو» إتحاد قليبية) كوّنتُ أجيالا من اللاّعبين والفريق ضحية سوء التسيير    صفاقس تتحول من 15 الى 19 ماي الى مدار دولي اقتصادي وغذائي بمناسبة الدورة 14 لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية    سبيطلة.. الاطاحة بِمُرَوّجَيْ مخدرات    نتائج استطلاع رأي أمريكي صادمة للاحتلال    حضور جماهيري غفير لعروض الفروسية و الرّماية و المشاركين يطالبون بحلحلة عديد الاشكاليات [فيديو]    اليوم: إرتفاع في درجات الحرارة    انشيلوتي.. مبابي خارج حساباتي ولن أرد على رئيس فرنسا    عاجل : برهان بسيس ومراد الزغيدي بصدد البحث حاليا    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    الدورة 33 لشهر التراث: تنظيم ندوة علمية بعنوان "تجارب إدارة التراث الثقافي وتثمينه في البلدان العربيّة"    قيادات فلسطينية وشخصيات تونسية في اجتماع عام تضامني مع الشعب الفلسطيني عشية المنتدى الاجتماعي مغرب-مشرق حول مستقبل فلسطين    مع الشروق .. زيت يضيء وجه تونس    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    حل المكتب الجامعي للسباحة واقالة المدير العام للوكالة الوطنية لمقاومة المنشطات والمندوب الجهوي للشباب والرياضة ببن عروس    مدير مركز اليقظة الدوائية: سحب لقاح استرازينيكا كان لدواعي تجارية وليس لأسباب صحّية    نحو 6000 عملية في جراحة السمنة يتم اجراؤها سنويا في تونس..    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    عاجل : إيلون ماسك يعلق عن العاصفة الكبرى التي تهدد الإنترنت    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    بعيداً عن شربها.. استخدامات مدهشة وذكية للقهوة!    تونس تشدّد على حقّ فلسطين في العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتّحدة    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مصدر العلاقة بين القومية العربية والإسلام
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 12 - 2008

استقطبت قضية العلاقة بين العروبة والإسلام ولا تزال اهتمام العديد من الحركات الإسلامية الإصلاحية والمفكرين القوميين العرب منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا. وبقدر ما نجد فريقاً من المثقفين يدافع عن الأطروحة التي تفترض علاقة التلازم بل التطابق الأصلي والتعايش التاريخي بين العروبة والإسلام، وإن أي خلاف بينهما لا وجود له، باعتبار أو واقعية القومية العربية تنبعث من حضارة الإسلام، وعلى دور الإسلام والعربية لغة وثقافة في تكريس مقومات القومية العربية وفي بعث الوعي القومي العربي، وعلى أن الإسلام يزود القومية العربية بركيزة حضارية قوية. بقدر ما نجد في المقابل فريقاً من المثقفين يدافع عن الأطروحة التي تفترض الخلاف والتناقض بين العروبة والإسلام، خصوصاً لدى الذين يجعلون من العروبة عقيدة قومية من جهة، ولدى الذين يرفضون التخلي عن الشرعية الدينية في السياسة لمصلحة القومية العلمانية البعيدة عن الدين.
ويذهب برهان غليون إلى القول أن هذه العلاقة التي كانت تبدو طبيعية وحتمية بين الإسلام والعروبة في الماضي، وهذا الانسجام الكلي، لم يتبدل فقط كما كان عليه الحال في السابق، ولكن أكثر من ذلك، أن الأسباب التي كانت تدعو إلى التطابق، والتي كانت تخلق الانسجام، هي نفسها التي تدفع اليوم إلى الفرقه، وتخلق التوتر الفعلي بين العروبة والإسلام. إن العروبة لا تصبح معارضة للإسلام إلا أنها تريد أن تتحول إلى مفهوم يجمع بين السياسة والدين أو القيم الملهمة والمرشدة، والإسلام لا يتناقض مع العروبة إلا أنه يريد أن يجمع بين الدين والدنيا أيضاً. لكن تحويل العروبة والإسلام إلى مفهومين شاملين وجامعين ليس محض صدفة، إنه بالعكس أصل تحولهما معاً إلى مفهومين اجتماعيين فاعلين في الحياة السياسية والاجتماعية. وهو نفسه لم يكن ممكناً إلا لأن العروبة والإسلام في عمق الذاكرة الجمعية متماهيان، أي لأن الانتماء السياسي والانتماء الثقافي الديني كانا يشكلان شيئاً واحداً. وعندما تحين ساعة توزيع الإرث وتقسيم العمل لا بد يبدأ الصراع، وبقدر ما يعتبر كل طرف أنه يجمع بين كل عناصر الوجود الاجتماعي فإنه يهدد بأن يصبح منافساً للآخر وعاملاً على إزالته من الوجود بعد انتزاع شرعيته ومواقعه.
من المعروف تاريخياً أن ثورة العرب الإسلامية انطلقت من فكرة التوحيد، أي وحدانية الله «هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام» (59 الحشر الآية 23)، «وإلهكم إله واحد»، «الله لا إله إلا هو الحي القيوم» (البقرة 163، 255) «هو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم» (الحشر 22). هذه السيادة العليا والمتعالية للكلي المطلق، هي التي تبرز وتشرع الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية للنبي محمد، وبالتالي لسلطته السياسية ولخلفائه من بعده.
وليست ثورة العرب هذه التي قادها النبي محمد(صلعم)، والقائمة في رؤيتها للعالم، وفي مثالها على الإسلام من حيث هو في جوهره وحي متجسد في كتاب الإسلام الأول والوحيد القرآن، هذا الكتاب الذي هو المصدر الذي يتضمن كل الآيات القرآنية، والذي خلع لباس التعالي على هذه السيرورة الثورية في الواقع المعاش بتاريخيته وتجريبيته ونسبيته في الجزيرة العربية، عن طريق ربطها بالكلي المطلق الأعلى الله، هذه الثورة ليست سوى ذلك التحول والصعود لقوى تاريخية جيدة منظمة، الذي أسس وعياً إسلامياً في حال انبثاق عن روح العالم والتاريخ، ورسخ بدوره نوعاً من النظرة للوجود، والرؤية للعالم. كما أن هذه الثورة مثلت الاستجابة التاريخية الضرورية لحاجة العرب في شبه الجزيرة من أجل مواجهة الأخطار التي كانت محدقة بهم خصوصاً بعد انقطاع التجارة الهندية بسبب تغيير الطريق التجاري الأوروبي الآسيوي، والغزوات الفارسية القادمة من الشمال والتي كانت تهدد مكة، وكذلك التهديدات التي كانت تمارسها الحبشة على سكان الجزيرة، والأزمات التي كانت تعصف بالمجتمع العربي القبلي الجاهلي، لقد جاء الإسلام وثورته الاجتماعية والثقافية بفكرة الإله الواحد، من حيث هو ذات أو مفهوم ينطوي على سائر الأفكار والرؤى والحدوس والمثل العليا التي تحتوي على قيم مطلقة أبدية لا تحل في الزمان، والتي تعتمد في حقيقتها وصدقيتها على تماسك المعنى المقدم من قبل الخطاب القرآني، وقام بثورته على أيديولوجية الطبقة الاجتماعية المسيطرة المتمثلة بسادة مكة القريشيين، التي تتخذ من شكل وعيها الديني «الوثني والمحافظ على حسية الرموز الدينية وعلى الأوثان كتعبير عن التجزؤ والتشرذم، والتعبير لقوى عرب الجاهلية بين دوائر قبلية منفصل بعضها عن بعض».
وفضلاً عن ذلك فإن العمق الثوري للإسلام انطلق من تلك العلاقات التي نسجت وحيكت بين السيادة العليا الإلهية والوحي الإسلامي بجملته، وبين السلطة السياسية للنبي محمد، التي أرست نواة الدولة في المدينة، وراحت تعيد إنتاج الواقع التاريخي لعرب الجزيرة على ضوء منظومة المعايير الإسلامية الآمرة، لكي يصبح مطابقاً مع هذه المعايير، وحطمت بذلك أسس المجتمع الجاهلي المتحكم فيه النظام القبلي البدائي، ووحدت الجزيرة العربية، وحافظت على مكة أم القرى واعتبارها إحدى المقدسات الإسلامية.
وتجدر الإشارة هان إلى أن النبي محمد(صلعم) في سياق المبادرات السياسية الثورية التي كان يقوم بها، اضطلع بدور مزدوج، إن لجهة الإكمال النظري لهذه المنظومة من التحديات والآيات القرآنية لترسيخها في وعي البشر، أو لجهة القيام بدور العنصر المفسر لهذه المنظومة ذاتها، حيث تتطلع هذه المنظومة المعيارية إلى الارتقاء بالواقع إلى مستوى (المثال) إما بسلب الواقع سلباً مباشراً، وإما بسلب جزئي يمارسه الواقع التاريخي على منظومة المعايير الإسلامية من خلال منهج في التفسير يعيد تفهم هذه المنظومة المعيارية بأكملها في ضوء أحد المنجزات التي يكون (روح العالم) قد حققها في لحظة تاريخية معينة من لحظات حياته.
العرب حملوا راية الإسلام إلى العالم، كما أن الوحي الإسلامي بلسان عربي. وقام الإسلام بفرض توحيد اللغة العربية التي قامت على أنقاض اللهجات القبلية العربية المتعددة، حتى أصبح الارتباط بين الإسلام والعروبة ارتباطاً صميمياً. وكان لانتشار الإسلام أثر قوي في انتشار ظاهرة التعريب واللغة العربية، وإن كان مفهوم التعريب لم يكن مجاله وأثره شاملاً، ولا واحداً في الأمصار، التي انتشر فيها الإسلام. فهناك شعوب مسلمة استوعبها التعريب، ورسخت فيها الثقافة العربية الإسلامية حيث سادت اللغة العربية، وهناك أمم عريقة مجاورة اعتنقت الإسلام وشاركت في بناء الحضارة الإسلامية، انطلاقاً من تفسيراتها للإسلام المرتبطة جزئياً على الأقل، بخلفيتها التاريخية والثقافية والحضارية والدينية العريقة التي وجدت قبل الإسلام بقرون عديدة. ومثلما أن الاحتفاظ بمكة وتكريس تقديسها وتحويلها إلى مركز لعبادة التوحيد الإسلامية يشير إلى النزعة القومية العربية الجديدة التي حملها الإسلام، والتي خاضت حروباً طاحنة في سبيل توحيد عرب الجزيرة، والتي انطلقت استناداً لتلك الوحدة العربية الجديدة لتوسيع سيطرتها على سورية وفلسطين، ثم الانطلاق نحو مصر وأفريقيا، مثلما أن الاحتفاظ بمكة رمزاً حضارياً عربياً قومياً، فإن انتقال مركز الخلافة إلى دمشق، ونشوء الدولة الأموية كثمرة لتطور طبيعي في سياق الظروف الدولية والإقليمية السائدة آنذاك في القرن السابع الميلادي، وكذلك الواقع الاقتصادي الاجتماعي حينذاك، وتحولها إلى إمبراطورية عربية مترامية الأطراف شكلت قطيعة بالمعنى الجدلي مع فجر الإسلام (عصر الخلفاء الراشدين) وفتحت الباب أمام نشوء طبقة ارستقراطية عربية متكونة من أبناء القبائل العربية الأساسية، بصرف النظر عن دورها في الإسلام.
وهكذا فإن الإسلام العربي لم يكن مجرد دين بالنسبة للعرب، لأن النبي محمد(صلعم) بذل جهداً مستمراً في اضطلاعه ببلورة نظرية لتفسير نصوص الوحي، دامجاً بذلك بين عملية الوحي بإطلاقيتها وعملية التفسير بتاريخيتها داخل عملية واحدة، تجمع بين الإلهي والإنساني في ثنائية تطابقية بين المطلق والنسبي، الكلي والجزئي، اللامتناهي والمتناهي، المفهوم والتعين. ما يميز تجربة العرب مع الإسلام ارتباطه بالضرورة بالتاريخ والسياسة.. من هنا يتبدى الإسلام على أنه دلالة الزمان والحياة، أي دين ودنيا، من خلال هذا الاتحاد بين الوحي (المعنى) والواقع التاريخي. وتجربة العرب مع الإسلام ليست أبداً تجربة أوروبا مع المسيحية ولا الهند مع البوذية، ولا نريد بأن نوحي بذلك، كما سيتبادر إلى ذهن البعض الحريص على المقارنة والمماثلة، إن المجتمع العربي لم يقم بثورة فكريه وعلمية (وهذا أمر واقع وإن كان لا يستدعي في الواقع البكاء) ولكن الأكثر من ذلك، وبشكل رئيسي، إن تاريخ هذا الدين بالنسبة للمجتمع العربي لم يكن تاريخ الدين المسيحي بالنسبة للغرب.
الثورة التي قام بها الإسلام في الجزيرة العربية ثم في المجتمع العربي عموماً، هي في مضمونها التاريخي ثورة قومية عربية، وهذا يؤكد على أن الوعي القومي للنبي محمد(صلعم) في رسالته، والثورة العربية الإسلامية التي قام بها حاضرٌ، بما أنه أسس حركة عربية قومية، رفعت شأن العرب وأنقذتهم من براثن التخلف، وكانت في أصل تحولهم إلى مدنية وإمبراطورية عالمية، عززت مكانة العرب في إطار الصراع الدولي المحتدم آنذاك مع الإمبراطوريات المجاورة، وأدت إلى احتلالهم موقع الريادة في قيادة السياسة الدولية. ويتجلى الوعي القومي واعتزاز محمد بأنسابه إلى القومية العربية في قوله «الذين يتبعون الرسول النبي الأمين الذي يجدونه مكرماً عندهم في التوراة والإنجيل»، ويضيف «.. إنما يعلمه البشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين»، وكقوله: «قل لإن اجتمعت الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعضهم ظهيرا. ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فآبى أكثر الناس إلا كفوراً»، باعتبار أن القرآن الذي أتى به محمد هو «تنزيل رب العالمين» نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين».
وبذلك أعطى الإسلام العرب رسالة، وغدا حسب مفهوم ذلك الزمان ثورياً، بالنسبة لمرحلة التشرذم القبلي، لأنه اتخذ موقفاً سلبياً من البداوة، واستخدمه النبي محمد (صلعم)في ثورته القومية كسلاح إيديولوجي وسياسي في سبيل توحيد عرب الشمال مع عرب الجنوب، في إطار دولة واحدة، جمعت بين البدو والحضر في دعوة واحدة وحركة إسلامية واحده، وأنهت بذلك «حالة المجابهة والصراع بين البدو والحضر لفترة تناهز قرنين»، من أجل مواجهة ودرء أخطار ومطامع الأمم المجاورة: الفارسية، والحبشيه، والبيزنطية، التي كانت تهدد الجزيرة العربية، ومركزها التجاري مكة، والطريق التجاري الذي يقود إلى البحر الأسود عبر فارس، وإلى سوريا وآسيا الصغرى، والطريق الذي كان يمر بالبحر الأحمر.
ويمكن القول من ناحية الواقع التاريخي، إن الإسلام باعتباره عقيدة ورباطاً سياسياً، وثقافة، وشريعة، وأساساً إيديولوجياً للمجتمع العربي الإسلامي، قد تحول مع الزمن ومع مرور الوقت إلى البوتقه التاريخية التي صهرت فيها وتكونت ونوقشت وتجددت كل النظم والنظريات والفلسفات القانونية والأخلاقية والسياسية للمجتمع العربي بحيث أصبحت المدنية العربية والقيم والنظم الإسلامية شيئاً واحداً، ولم يعد للشخصية العربية من مرتكز ثابت وواع وحقيقي آخر غير الإسلام، وما ارتبط به عبر التاريخ من نظم واعتقادات، حتى ولو كانت هذه النظم ليست أمينة كلياً لتعاليمه الحقيقية.
ووفق هذا المنظور، فإن دولة المدينة التي أسسها النبي محمد(صلعم) وتحولت في المراحل اللاحقة من انتشار الإسلام إلى امبراطورية عربية واسعة شاسعة شملت أيام الخلفاء الراشدين كل الجزيرة وسورية وفلسطين والعراق، ومصر، وإيران (فارس)، ثم لاحقاً بلاد المغرب، كانت حدود الدولة فيها هي الحدود القومية، إذا استثنينا البلدان التي لم تتعرب، حيث كان التطابق التام بين الدولة القومية والأمة قائماً. وبما أن الإسلام المبكر كان دين العرب والفاتحين، وعلى كاهلهم وقعت مسؤولية نشره بين مختلف الأمم، والعروبة في المراحل الأولى ومن بداية الفتح العربي الإسلامي وحتى نهاية العصر العباسي، كانت حاملة لرسالة الإسلام، فإن العلاقة بين الإسلام والقومية العربية كانت علاقة تأسيس، لأن القومية العربية ليست لها فلسفة خاصة معروفة ولا أسس عقائدية ثابتة يمكن العرب بواسطتها التجمع حولها كما يتجمع أصحاب العقائد الواضحة والمبادئ المفصلة والتي تقوم على مخطط فلسفي معروف.
فالعلاقة بين الإسلام التاريخي المتمايز عن الإسلام الميتافيزيقي أو الأسطوري باعتباره الدين الجديد الذي سرعان ما تمظهر في شكل الدين القومي الحربي الجماعي الذي وجد له قاعدة اجتماعية سياسية منذ الهجرة إلى المدينة، وأصبح مدعوماً بوساطة النجاحات السياسية في قلب المجتمع العربي كحدث تاريخي بشكل كامل، والذي في ظله استكملت الأمة العربية وحدتها القومية، بوصفه أحد مكونات المجتمع العربي وبين العروبة واللغة العربية، أصبحت رابطة عضوية. لأن العربي أسهمت إسهاماً فعلياً بواسطة الاتصال اللغوي في تغذية وتقوية الإسلام، كإيمان، وكقانون، وكأخلاق، وفي إنتاج الإسلام التاريخي كتراث حي من خلال الممارسة السياسية والإيديولوجية، والنهضة الثقافية والفكرية والحضارية، التي تقوم بها الذات على ذاتها في مرحلة تاريخية محددة من تاريخ الأمة العربية هي مرحلة الثورة العربية الإسلامية، التي كانت أكثر عمقاً وامتداداً في جذور التاريخ العربي، وفي المراحل الذهبية من تكوين وتطوير الدولة الإمبراطورية العربية الإسلامية المركزية، وهذا الإسلام التاريخي أعطى قوة دفع قوية لفكرة القومية العربية، من خلال الدور الذي اضطلع به كإطار للمدنية والحضارة للدولة الأمة (الأمة الروحية) منذ دولة المدينة أولاً، ثم في أعقاب الفتوحات الإسلامية وتشكل الدولة الإمبراطورية العربية الإسلامية، التي أصبحت الأمة العربية في صيرورتها مجتمعاً تاريخياً مجهزاً بدولة ومسؤوليات، وله إستراتيجية سياسية واقتصادية، ومؤسسات، وإدارة قضائية، وبلورة للقانون الديني المثالي: الشريعة، وانتشار لثقافة دنيوية، وحضارة مادية دنيوية أيضاً، ثانياً.
في سياق حركة الحضارة العربية الإسلامية، لم يكن يظهر بين الإسلام والعروبة تمايز، أو عراك، أو تقابل بينهما، لأنهما يتغذيان من المرجعية التراثية ذاتها، ولأنهما يشكلان عنصرين مؤسسين للقومية العربية في تأسيسها في الماضي، وللهوية، حيث أن شعوب شمال أفريقيا لا ينفصل في وعيها الإسلام عن العروبة، ولا العروبة عن الإسلام، أما في المشرق العربي فمن لم يكن مسلماً كالمسيحيين، فهم يعتبرون أنفسهم عرباً باللغة والثقافة والتاريخ والأصل والانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية، لكن علينا أن نعترف بأن العلاقة بين العروبة والإسلام، التي كانت علاقة انسجام كلي بالفعل في الماضي، لم تعد كذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم، بسبب ظهور الفكرة الجديدة عن القومية العربية التي نشأت وتطورت وتبلورت انطلاقاً من المرجعية الثقافية السياسية والأيديولوجية الجديدة المنحدرة عن الثورة الفرنسية، والمتسمة بطابع الحداثة، والمتغذية كذلك من منابع داخلية شتى، من عصر النهضة كمجهود ووعي الذي ظهرت فيه الحركة القومية العربية الداعية إلى الانسلاخ عن الجامعة الإسلامية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.