الاتفاق على احداث لجنة قيادة وبرنامج وطني لتفعيل "إعلان قرطاج" للصحّة الواحدة    تصادم سفينتيْن في بحر عمان    الملعب التونسي يعزز صفوفه بالحارس نور الدين الفرحاتي    تحذير طبي: خطر الاستحمام بالماء الساخن قد يصل إلى الإغماء والموت!    تعرف آش ينجم يعمل فيك قلّة النوم؟ كيلو شحم في جمعة برك!    المنتخب التونسي يشارك في بطولة افريقيا للرقبي السباعي بالموريس يومي 21 و 22 جوان الجاري    منوبة: فتح الجزء الثاني من الطريق الحزامية " اكس 20 " بولاية منوبة    بطولة برلين المفتوحة (منافسات الزوجي): التونسية أنس جابر وشريكتها الاسبانية باولا بادوسا في الدور ربع النهائي    قفصة : حلول الرحلة الثانية لحجيج الولاية بمطار قفصة قصر الدولي وعلى متنها 256 حاجا وحاجة    المكتبة الخضراء تفتح أبوابها من جديد يوم الأحد 22 جوان بحديقة البلفدير    ملتقى تونس الدولي للبارا ألعاب القوى: العناصر التونسية تحرز 9 ميداليات من بينها 5 ذهبيات    الكاف: تطوير القطاع الصحي بتدعيم طب الاختصاص وتوفير تجهيزات متطورة (المدير الجهوي للصحة)    تونس ترشّح صبري باش طبجي لقيادة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية    المائدة التونسية في رأس السنة الهجرية: أطباق البركة والخير    عاجل/ الصين تدعو مواطنيها إلى مغادرة إيران في أسرع وقت..    عاجل/ بعد انذار بوجود قنبلة..طائرة تابعة لهذه الخطوط تغير مسارها..    عاجل : ''طيران الإمارات'' تمدد تعليق رحلاتها إلى 4 دول    بعد التهام 120 هكتارًا من الحبوب: السيطرة على حرائق باجة وتحذيرات للفلاحين    الحرس الثوري: استهدفنا مقر الموساد في تل أبيب وهو يحترق الآن (فيديو)    بشرى للمسافرين: أجهزة ذكية لمكافحة تزوير''البطاقة البرتقالية'' في المعابر مع الجزائر وليبيا    تعرفش علاش الدلاع مهم بعد ''Sport''؟    الدورة 12 من الملتقى الوطني للأدب التجريبي يومي 21 و 22 جوان بالنفيضة    افتتاح مركز موسمي للحماية المدنية بفرنانة تزامنا مع انطلاق موسم الحصاد    الصين تتهم ترامب ب"صب الزيت على النار"    منوبة: الانطلاق في تزويد المناطق السقوية العمومية بمياه الري بعد تخصيص حصّة للموسم الصيفي ب7,3 مليون متر مكعب    أبرز ما جاء في لقاء رئيس الدولة بوزيري الشؤون الاجتماعية والاتصال..    الحماية المدنية : إطفاء 192 حريقا خلال ال 24 ساعة الماضية    بعد السقوط أمام فلامنجو... الترجي في مواجهة هذا الفريق بهذا الموعد    لا تفوتها : تعرف على مواعيد مباريات كأس العالم للأندية لليوم والقنوات الناقلة    عاجل/ رئيس الدولة يفجرها: "لا أحد فوق المساءلة والقانون..ولا مجال للتردّد في إبعاد هؤلاء.."    موعد إعلان نتائج البكالوريا 2025 تونس: كل ما تحتاج معرفته بسهولة    الطقس اليوم: حرارة مرتفعة..وأمطار مرتقبة بهذه الجهات..    6 سنوات سجنا لنائب سابق من أجل الإثراء غير المشروع    هيونداي 9 STARIA مقاعد .. تجربة فريدة من نوعها    قائد عسكري إيراني: شرعنا باستخدام أسلحة جديدة ومتطورة    عاجل/ آخر مستجدات أخبار قافلة الصمود لفك الحصار على غزة..    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي..    تحويلات التونسيين والسياحة تغطي أكثر من 80٪ من الديون الخارجية    عدد ساعات من النوم خطر على قلبك..دراسة تفجرها وتحذر..    كيف سيكون طقس اليوم الثلاثاء ؟    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي ينهزم أمام نادي فلامينغو البرازيلي    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولادة ونشأة القومية العربية
بقلم علي جوادي
نشر في الشعب يوم 23 - 08 - 2008

كان لكلمة أمة خلال العصر الوسيط، معنى مختصر:» مجموعة من الناس من ذوي الأصل المشترك»، وعرفت الأكاديمية الفرنسية في أواخر القرن ال 17 الأمة باعتبارها» جملة من السكان لدولة واحدة، الخاضعين لنفس القوانين والمستخدمين لنفس اللغة». وغلبت الفلسفة المثالية الألمانية مفهوم الأمة الدولة على مفهوم الدولة الأمة، إذ تقوم فكرة الدولة في النظام المثالي الهيغلي على نوع من المطابقة بين الحق والوجود، أي كل ما هو عقلي فهو واقع وكل ما هو واقع فهو عقلي. ومقابل النزعة القومية الألمانية، ظهرت نزعة شمولية بالتوازي مع استيعاب أوروبا للعالم، ومن أبرز الدعاة لمفهوم شمولي للأمة الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان Ernest Renan ، فعنده « لا العنصر ولا اللغة، ولا الصلات الدينية، ولا القرابة الجغرافية، ولا المصلحة الاقتصادية كافية لتشكل عناصر تكوّن الأمة. فالإنسان عند رينان لا ينتمي، لا إلى لغته ولا إلى جنسه، بل ينتمي لنفسه باعتباره كائنا أخلاقيا حرا، والأمة هي روح ووعي تنشأ عن الماضي، عن الذكريات، عن التضحيات والأمجاد والأفراح المشتركة، وفي الرغبة في العيش المشترك. وما يكوّن الأمة عند رينان، ليس اللغة المشتركة، أو الانتماء إلى مجموعة أثنية مشتركة، وإنما القيام بأعمال مشتركة عظيمة في الماضي، وإرادة القيام بمثل هذه الأعمال مستقبلا» (1).
وفي عالمنا العربي، كانت لفظة «عرب» خلال القرون التي سبقت مجيء الإسلام تشير إلى شعبين من القبائل الرحل، قطنا شبه الجزيرة العربية: أحدهما كان مجال تنقله في البلاد الممتدة من نهر الفرات حتى جنوب الحجاز ونجد، وثانيهما يعيش معظمه حياة شبه المستقرة في بلاد اليمن وحضرموت. وأدى انتقال المجتمع العربي من التجمعات القبلية إلى المجتمع الحضري، إلى إحلال رابطة القانون والشريعة محل رابطة العادات والتقاليد، وقامت فكرة الأمة مقام القبيلة، ولعب الإسلام دورا بارزا في إعطاء العرب شخصيتهم المشتركة. وتم التعريب العرقي بهجرة جماعات كبيرة من عرب شبه الجزيرة العربية نحو مصر ومن ثم إلى شمال أفريقيا، نجم عن امتزاجهم بأهل البلدان المفتوحة الاختلاط الأثني العرقي، وانتشر التعريب اللغوي بدوره في أماكن أوسع من التعريب الأثني العرقي الذي اقتصر في مراحله الأولى على بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية والعراق. وتغير بفعل التمازج الحضاري العرقي مضمون كلمة «عربي»، فلم تعد تقتصر دلالتها على أفراد القبائل الرحل الذين كانوا هم سكان شبه الجزيرة العربية، بل أصبحت مع الزمن تدل على» أناس» في عالم عربي متسع الأرجاء، والمقصود بهؤلاء» الناس» الكثرة الغالبة من السكان الذين ينحدرون من سلالات غلب عليها التعريب، وطبعها بطابعه الخاص، واصطبغت عاداتها وتقاليدها بصبغة عربية، وأول تعريف لهم أن يقال أنهم»الناطقون بالضاد»، وبذلك يطلق هذا اللفظ على العروبة بمعنى حضاري ينضوي في إطاره جماعة قومية جديدة على أساس سياسي بوجه خاص، واثني وعرقي وديني بدرجة أقل.
ويعتبر كتاب المفكر الفرونكوفوني نجيب عازوري يقظة الأمة العربية(نشر باللغة الفرنسية في العام 1905) إحدى أوائل المحاولات الفكرية في المجال القومي العربي، وعارض عازوري الدولة العثمانية وأسس حزبه» القومي» في العام 1904 تحت اسم» جامعة الوطن العربي»، كما أصدر في باريس مجلة «الاستقلال العربي» 1907 1908. وانطوت أطروحة عازوري على الدعوة إلى إقامة إمبراطورية عربية دستورية وعلمانية، تقوم على الفصل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية على غرار ما هو المعمول به في الفاتيكان(2). إلا أن النقد الموجه لإمبراطورية عازوري هي أنها تقتصر على الجزء الممتد من الفرات ودجلة إلى خليج السويس، ومن المتوسط حتى بحر عمان. وقد يفسر هذا النقص بكون أطروحة عازوري مصاغة بروح الأقلية المستبعدة والمضطهدة في الدولة العثمانية، فبزوغ فكرة القومية العربية وما ارتبط بها من الدعوة لإقامة الدولة العربية الواحدة، ارتبط بالدعوة إلى ضرورة تحقيق المطلب الديمقراطي في مواجهة الاستبداد العثماني الذي كان يعاني منه عرب المشرق بوجه خاص. وبرزت إلى الوجود في أعقاب الحرب العالمية الأولى العديد من الدعوات القومية، كفكرة الأمة السورية، وفكرة الأمة اللبنانية، وفكرة الأمة العراقية. وبسط أنطوان سعادة مؤسس الحزب القومي السوري في أعقاب الحرب العالمية الأولى العقيدة القومية السورية، فأعتبر أن الأمة هي الوحدة الأساسية للتاريخ الإنساني، وأنها تنشأ عن المصلحة والإرادة ولا عن اللغة أو الدين، وكان فكر الحزب القومي السوري معارضا مبدئيا لفكرة الوحدة العربية على اعتبارها فكرة غير عملية، لكن الحزب القومي السوري صاغ مع أواخر أربعينات القرن الماضي برنامجه صياغة منفتحة على العروبة، مبررا الوحدة السورية على أنها خطوة نحو تكتل عربي أوسع( سوري عراقي) تتزعمه سوريا. وواظب شكيب ارسلان أثناء إقامته في سويسرا 1918 1946 على إصدار مجلة» الأمة العربية»، ورغم أن ارسلان كان ينظر إلى العروبة باعتبارها «عروبة إسلاميه»، إلا أن كتاباته كانت تتحلى بنزعة علمانية مضاهية لنزعته العروبية، وقد بدأ من ثمة مركز الثقل في النظر إلى الإسلام، لا كعقيدة كلية وإنما كحضارة، باعتبار أن العرب المسيحيين هم أيضا جزء من الأمة العربية. ورغم أن كتاب علي عبد الرزاق» الإسلام وأصول الحكم» لم يتضمن أية إشارة للمسألة القومية، إلا أنه تضمن رؤية سياسية وضعية للحكم وأصوله، إذ يرى هذا الكاتب أن الخلافة في الإسلام ليست نظاما دينيا، وأن النبي لم يكن ملكا، ولم يحاول قط أن ينشئ حكومة أو دولة، بل كان رسولا وليس زعيما سياسيا، ومن هنا دعي عبد الرزاق إلى إلغاء نظام الخلافة. وقد تبني هذه النظرة الحضارية للإسلام أيضا أحد أبرز المفكرين القوميين المسيحيين العرب، قسطنطين زريق الذي دعا في كتابه «الوعي القومي» الصادر عام 1939، إلى عقيدة قومية تولد الشعور بالمسؤولية المشتركة، والإرادة في خلق مجتمع عربي موحد.
غير أن النظرية القومية العربية ستعرف مع ساطع الحصري، وزكي الأرسوزي ذروة نظرية جديدة. يعتبر الحصري الذي تأثر بالقوميات الأوروبية بشكل عام والألمانية بوجه خاص، أن المجتمعات السياسية تنشأ عن ثلاث عواطف: عاطفة القومية، وعاطفة الوطنية، وعاطفة الولاء للدولة. والوطنية بنظر الحصري هي ارتباط الفرد بقطعة من الأرض تعرف باسم الوطن، والقومية هي ارتباط الفرد بجماعة من الناس تعرف باسم الأمة، أما الدولة فهي: «جماعة من البشر يعيشون على أرض محددة مشتركة، مؤلفين هيئة سياسية ذات سيادة»(3). وهذا المفهوم للدولة يتطابق مع مفهوم الأمة، وهو التطابق المعهود في النظرية الألمانية المثالية للدولة. والعناصر التي تتكون منها القومية وتتألف منها الأمة، بنظر الحصري هي اللغة والتاريخ. «فاللغة هي واسطة تفاهم بين الناس، وواسطة نقل الأفكار والمكتسبات من الأسلاف إلى الأحفاد، ووحدة اللغة تكون نوعا من الوحدة في الشعور والتفكير لأن اللغة تربط الأفراد بسلسلة طويلة من الروابط العاطفية والفكرية، وتتميز الأمم عن بعضها البعض بلغاتها بدرجة أولى، فاللغة هي روح الأمة ومحور القومية، أما التاريخ فهو شعور الأمة وذاكرتها»(4). ويستخدم الحصري نظرية ابن خلدون في العلاقة بين الدين والعصبية، ليبين أن الدين لا يمكنه بحد ذاته أن ينشىء جماعة سياسية، بل بوسعه فقط أن يقوي الجماعة التي تكون قد نشأت عن تضامن طبيعي ناجم عن صلات طبيعية. والأمة عند الأرسوزي هي آية، أصولها في الملأ الأعلى تتحقق باندراج تجلياتها في المكان، وباستخدام هذه التجليات في الزمان. وتكمن أهمية الأرسوزي في تأكيده على فكرة «البعث القومي» المستوحاة من البعث القومي في أوروبا، وما تضمنه من عودة إلى لغة الأجداد.
النضال ضد التجزئة الاستعمارية، والنضال ضد الفوارق الطبقية، والنضال ضد التسلط
يصوغ المفكر مشال عفلق مؤسس « حزب البعث» مع أوائل أربعينات القرن المنصرم، وصديق الأرسوزي في صباه، نظريته في القومية على أسس مشابهة للأسس التي بني عليها الحصري نظريته الخاصة. غير أن عفلق يميز بين «القومية العربية»، و»النظرية القومية». فالفكرة العربية بنظره فكرة بديهية، أما النظرية القومية فهو التعبير المتطور عن هذه الفكرة. يقول عفلق: «إن القومية العربية لدى البعث هي واقع بديهي، يفرض نفسه دون حاجة إلى نقاش أو نضال، أما مجال الاختلاف، وضرورة النضال، فهما في محتوى هذه القومية، هذا المحتوى المتطور الذي يحتاج في كل مرحلة من مراحله إلى نظرية قومية تلائمه. لهذا لا موجب لأن نناقش في أننا عرب أم لا، ولكن يجب أن نختار وأن نحدد مضمون العروبة: أتكون رجعية أم تقدمية؟ أتستقيم مع الاستعمار والاستبداد أم أن شرطها الحرية؟ وهل تبقي مع التجزئة أم أن الوحدة شرط أساسي لها؟ «(5).
والقومية بنظر عفلق تقوم على مقومات الشعور المشترك والمصلحة المشتركة: «فنحن نسمي عربا هذه المجموعة من البشر التي استلمت من الماضي، تلك المقومات، والشروط الابتدائية والضرورية، للشعور المشترك، وللمصلحة المشتركة، لا لتقف عند هذا الحد، بل كنقطة انطلاق تبدأ منها حياة جديدة، تملؤها بكل المثل الإنسانية التي توحي بها، أو تدفع إليها تجربتها الحاضرة»(6). والشخصية العربية بنظر عفلق خالدة وواحدة، ميزتها وحدة الأصل والعنصر، وقد صقلتها وحدة اللغة والروح والتاريخ، وهي صاحبة رسالة وفكرة تقود إلى تكوين نظرة إلى الماضي، وعلاقته بالحاضر والمستقبل، والأمة بهذا المقتضي جسم حي أبدي. وعاد حزب البعث بعد اندماجه بالحزب الاشتراكي(إكرام الحوراني)، فأدرج النظرة الاشتراكية في برنامجه وفي نظريته السياسية. عند عفلق جميع الفوارق عرضية تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي. وعند عفلق الوحدة هي تحرير وتقدم، وتحقيق انبعاث روحي في المجتمع العربي. إلا أن تصوره للوحدة العربية كفكرة جوهرية جعله يعطيها أسبقية ليس على حساب الاشتراكية وحسب، وإنما على حساب المبدأ الديمقراطي أيضا. فالفكر السياسي العربي الذي انطلق يدعو إلي الوحدة العربية كرد فعل على الاستبداد العثماني ولتحقيق مطلب الديمقراطية، عاد ليغفل بعد ذلك أهمية الديمقراطية بالنسبة للوحدة، سواء في أسلوب تحقيقها، أو في أسلوب الدعوة إليها بين الجماهير، أو في أسلوب إدارة الصراع من لأجل تحقيق هذا الهدف.
حين أسس ميشال عفلق « حزب البعث»، كانت أفكار القومية العربية والوحدة العربية قد انتشرت في أوساط الطلبة والمثقفين في سوريا ولبنان، من خلال كتابات زكي الأرسوزي، وساطع الحصري، وقسطنطين زريق، ولم يكن تأسيسه سوى الإعلان عن انتقال الممارسة القومية من المجال النظري إلى مجال التأطير السياسي. وأثرت أدبيات حزب «البعث العربي الاشتراكي» في مجمل الحركة القومية العربية، لذلك حينما كانت « حركة القوميين العرب» تلتمس أولى خطوات صعودها السياسي، وتخرج من رحم الجامعة الأمريكية في بيروت إلى شوارع العواصم العربية، كان في جعبتها شيء من «البعث»، ومن فكره، وشعاراته (تحرير وحدة اشتراكية ). صحيح أن « حركة القوميين العرب» التي أسسها جورج حبش، وهاني الهندي مع مطلع خمسينات القرن ال 20، نهلت من مصادر فكرية قومية عربية وغربية، ولكنها تدين في تكوينها ومواقفها الفكرية إلى أطروحات الدكتور قسطنطين الذي كان أبا روحيا لها، والذي تتلمذ على يده جورج حبش ورفاقه.
ارتبط تأسيس « حركة القوميين العرب»، بظروف الاغتصاب الصهيوني لفلسطين وهزيمة معركة 1948، لهذا نجد الوحدة العربية عند حركة القوميين العرب تعني هدف الأمة في تحقيق ذاتها، ووسيلتها لإنجاز التحرير، و»الثأر» لما لحق هذه الأمة من مهانة واستبعاد على أيدي المحتل الصهيوني، فالنضال ضد التجزئة، ومن أجل الوحدة، بوابة التخلص من أعداء الأمة العربية.
وظهرت ثورة 23 جويلية (يوليو) بقيادة جمال عبد الناصر وفي جعبتها أيضا شيء من الفكر البعثي، لتحسم النقاش حول هوية مصر باعتبارها هوية عربية، في قطيعة معرفية مع مفهوم المصرية السياسية السائد في النصف الأول من القرن العشرين. وتنص المادة الأولى من الدستور الجمهوري الجديد للعام 1956 أن: «مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية ديمقراطية، والشعب المصري جزء من الأمة العربية»(7). ومن المقتطفات التي وردت في خطاب عبد الناصر الافتتاحي: «القومية العربية نداء عاطفي، ورابطة تاريخية، ومصلحة مشتركة، ثم بعد ذلك ضرورة استراتيجية»(8). غير أن هزيمة 5 جوان (حزيران) 1967 عادت ووضعت الأمور في نصاب جديد، ولم تعد القومية المذهبية كافية. واستكمل التيار القومي ما بدأته الحركة القومية في خمسينات القرن الماضي، بتزويد المدرسة القومية بمقومات اجتماعية مستقاة من الفكر الماركسي( نديم البيطار، عصمت سيف الدولة)، وحتى تيار الماركسيين العرب(عبد الله العروي، سمير أمين، بدأ بفرملة نزعته العالمية ليقارب الواقع العربي الملموس.
ومع التحولات السريعة والمتلاحقة التي يشهدها العالم بداية من أواخر ثمانينات القرن الماضي بفضل ثورة الإعلام والاتصال، والثورة التكنولوجية الهائلة. وحين قادت العولمة التي أملتها متطلبات المشروع الرأسمالي الغربي إلى تفكيك المؤسسات الوطنية وتوظيفها بالكامل لصالح رأس المال الخادم لهذا المشروع، وحين تحولت الخصخصة إلى وسيلة سهلة للإثراء غير المشروع وأداة لتشويه النسيج الاجتماعي وتعميق الفوارق الطبقية لصالح نخبة استأثرت بالمال والسلطة على حساب الأكثرية، ازداد الاهتمام بموضوع الديمقراطية وإعادة توزيع الثروة والسلطة في الفكر القومي العربي، مع محاربة الفساد المالي والفساد الإداري، ومواجهة تفشى ظاهرة توريث المنافع والمناصب دون اعتبار للكفاءة ومتطلبات عملية البناء الوطني. والديمقراطية المطلوبة هي ديمقراطية المشاركة ولا الموافقة. والدولة الديمقراطية هي دولة المؤسسات التي تحترم إرادة الشعب، وتسهر على خضوع الجميع لحكم الدستور والقانون وعدم استثار فئة بالحقوق والامتيازات وترك الواجبات على ثقل غيرها
(1) Ernest Renan: Quest ce quune nation Ed.R.Hellen. Paris 1934 p x
(2)أنظر: نجيب عازوري يقظة الأمة العربية تعريب وتقديم د. أحمد أبو ملحم المؤسسة العربية للنشر بيروت 1978
(3) أنظر: ساطع الحصري آراء وأحاديث في الوطنية والقومية دار العلم للملايين بيروت 1944 ص 8
(4) أنظر نفس المصدر ص 26
(5) أنظر: ميشال عفلق معركة المصير الواحد دار الآداب بيروت 1958 ص 19
(6) أنظر: ميشال عفلق في سبيل البعث دار الطليعة بيروت 1959 ص 179
(7) عن أنيس صايغ تطور الفكرة العربية في مصر مطبعة هيكل الغريب بيروت 1969 ص 292
(8) نفس المصدر ص 294


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.