بعد متابعة حملة التضييق على وسائل الإعلام المستقلة في تونس ولمحاولة تفسير أسبابها، التقت منصات بلطفي حجي، مراسل قناة الجزيرة في تونس، والرئيس السابق لأول نقابة مستقلة للصحفيين والتي تأسست عام 2004. الرجل الذي ترفض السلطات حتى الساعة إعطاؤه بطاقة الاعتماد الصحفية تكلم عن التضييقات الأخيرة وأبعادها. محسن المزليني تعددت في الأيام الأخيرة وقائع التضييق على العمل الإعلامي في تونس. فبعد الملاحقات القضائية المتعددة لصحيفة "الموقف"، ثم إغلاق "راديو كلمة" ومضايقة الصحفيين العاملين فيها وأخيرا التعرض لقناة "الحوار التونسي" باتت تونس من البلاد الأكثر خطورة للصحفيين. كما باتت مصادرة بعض الصحف أمرا متواترا. فبعد الحجز الذي تعرضت له أكثر من مرة "الموقف" و صحيفة "مواطنون"، جاء دور "الطريق الجديد" الناطقة باسم حركة التجديد (وهو حزب ممثل في البرلمان). ولمحاولة تفسير أسباب هذه الحملة على وسائل الإعلام المستقلة التقت منصات الأستاذ لطفي حجي، مراسل الجزيرة في تونس والرئيس السابق لأول نقابة مستقلة للصحفيين التونسيين التي أسسها جمع من الصحفيين سنة 2004 للدفاع عن المهنة والوقوف في وجه كل الخروقات التي تمس الصحفيين وقطاع الإعلام عامة. وهو إلى جانب ذلك ناشط في المجال الحقوقي بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ما هو تقييمك لواقع الإعلام في تونس؟ يتجاذب المشهد الإعلامي في تونس تصورين متناقضين: التصور الأول هو تصور السلطة الذي تحكمه عناصر قديمة لمفهوم الإعلام ودوره، تتمثل في اعتبار الإعلام أداة مكملة لسياسة الحكومة يتولى الترويج لإنجازاتها وسياستها. أما التصور الثاني فيتبناه عدد من المهنيين والهيئات الأهلية المدافعة عن حرية التعبير ومفاده أن الإعلام يجب أن يكون مستقلا عن الدولة وأن يكون بمثابة المرفق العمومي الذي يقدم الخدمات للرأي العام وتكون له قوانينه ومؤسساته الخاصة التي تضمن له استقلاليته التامة. وبما أن موازين القوى غير متكافئة بين السلطة وأصحاب التصور التحرري للإعلام، فقد بقي المشهد الإعلامي يحكمه تصور السلطة ومنطقها الذي يقوم على احتكار الفضاء الإعلامي عبر جميع مراحله من الكتابة وصولا إلى التوزيع مرورا بالطباعة والإعلان والقوانين المنظمة للمهنة. وذلك على الرغم من بعض الإجراءات المحتشمة التي تتخذها السلطة بين الحين والأخر كلما تفاقمت الضغوط الخارجية عليها والتي تمثلت في تنقيح قانون الإعلام. غير أن تلك الإجراءات لم تفلح في تحرير الإعلام من هيمنة السلطة عدا قلة من صحف المعارضة التي كسرت حاجز الرقابة لكنها لم تستطع الإفلات من سلاح الإعلان والتمويل العمومي والتوزيع مما أبقاها محدودة الانتشار والتأثير في الرأي العام على أهمية ما تتناوله من قضايا . كيف تنظر الى الانتهاكات التي تعرض لها صحفيون تونسيون و مؤسسات إعلامية خاصة، مثل "راديو كلمة" ؟ ليس من الصدفة او من التجني على الحكومة في شيء أن يجمع الصحفيون التونسيون على انه رغم كثرة الوعود التي تقدمها الحكومة لتحسين أوضاع الصحفيين المهنية، فان التضييق عليهم لم يتوقف. وليس من الصدفة كذلك أن يشتكي الصحفيون في الصحف الحكومية و الخاصة والمعارضة معا من كثرة التدخلات الحكومية في القطاع الصحفي بما يعتبرونه مسا باستقلاليتهم و حدا من حريتهم. و ليس من الصدفة أيضا أن تشتكي صحيفتان من صحف المعارضة هما "الموقف"و"مواطنون" اللتان تجاوزتا السقف الذي رسمته الحكومة. فافتعلت قضايا ضدهما قصد التضييق. وقد سجلت في الأشهر الأخيرة أكثر من عشر قضايا ضد صحيفة الموقف و عدد شبيه ضد صحيفة مواطنون. و ليس من الصدفة أخيرا أن تجمع تقارير المنظمات الدولية المهنية المشهود لها بموضوعيتها وعلى رأسها الاتحاد الدولي للصحفيين بان الواقع الإعلامي في تونس متدهور وتصنف الحكومة التونسية في مراتب متأخرة في احترام حرية الإعلام. إذا كان ذلك ليس بصدفة، فهو يدل على سياسة ممنهجة تعتمدها الحكومة التونسية لمحاصرة كل الأصوات الحرة سواء عبر عنها صحفيون منفردون أو هيئات مهنية أو مؤسسات إعلامية. ما هي برأيك عناصر ما سميته ب"السياسة الممنهجة" للحكومة؟ هي في الحقيقة عناصر متعددة و متداخلة يمكن أن نذكر ثلاثة عناصر أساسية منها: عدم احترام القانون: و أحسن دليل على هذا الأسلوب هو تعامل السلطات التونسية مع الفصل 13 من مجلة الصحافة (قانون الاعلام) الذي ينص على" أن يقدم إلى وزارة الداخلية قبل إصدار اية نشرية دورية إعلام في مغلف متنبر و ممضى من مدير النشرية ويسلم وصل في ذلك". في حين ينص الفصل 14 على انه " قبل طبع أية نشرية يجب على صاحب المطبعة أن يطالب بالوصل المسلم من قبل وزارة الداخلية و الذي يجب ألا يكون مر على تسليمه أكثر من سنة". وهنا تكمن معضلة الإعلام التونسي لأن وزارة الداخلية ترفض تسليم الوصل مما يجعل صاحب المطبعة غير قادر على الطباعة بما يعني تحويل الإعلام إلى ترخيص مسبق لن يطاله الراغب في تكوين مؤسسة إعلامية. وقد تفننت وزارة الداخلية في أساليبها منذ سنوات لأنها لم تعد تقبل الملف أصلا و العديد من الراغبين في إنشاء مؤسسات إعلامية توجهوا إلى وزارة الداخلية ورفض الإداريون المعنيون استلام الملف و كانت من بينهم الزميلة سهام بن سدرين بوصفها معنية براديو كلمة في قضية الحال. وكانت آخر تلك المحاولات ما قام به التيار الناصري يوم 9 شباط الجاري حين توجه إلى وزارة الداخلية لتقديم طلب في صحيفة بعنوان الناصرية فرفض المسؤولون استلام الملف فتوجه الى ولاية تونس فكان نفس الموقف مما اضطرهم إلى إرساله بالبريد. والأمر نفسه ينطبق على إنشاء الإذاعات لان الحكومة التي سمحت لأول إذاعة خاصة – و ليست مستقلة- سنة 2004 قالت إنها ستكون بداية لفتح الفضاء السمعي البصري غير أنها إلى حد الآن لم تقدم كراس شروط و لم يدر أهل القطاع و غيرهم كيف تم – من الناحية القانونية طبعا لأنهم يدركون العلاقات الأخرى- إسناد الرخص للإذاعات الخاصة الموجودة الآن في حين أن هناك العديد من المطالب لم تتكفل الإدارة المعنية بالإجابة عنها. الضغط على الصحفيين المستقلين: تشهد الساحة الإعلامية من حين لآخر وسائل ضغط عديدة على الصحفيين المستقلين مثل الطرد من العمل، المراقبة الأمنية اللصيقة لمن يتناول مواضيع" محرمة" على باقي الصحفيين، التحقيق في مخافر الشرطة كما حصل نهاية الأسبوع الماضي مع صحفيين من راديو كلمة و قناة الحوار التونسي الذين تم استجوابهم و تحذيرهم من مغبة العمل مع هذين المؤسستين. ولا بد من التذكير هنا أن السلطات تتعمد مصادرة معدات صحفيي قناة الحوار التونسي التي تبث ساعة في اليوم من ايطاليا و ليس من تونس، و قد ابرز بيان للقناة أن عناصر من الأمن باللباس المدني صادرت أكثر من عشر كاميرات صغيرة على امتداد فترات مختلفة. وربما هذه الوضعية هي التي دفعت الاتحاد الدولي للصحفيين و منظمة مراسلون بلا حدود و اللجنة الدولية لحماية الصحفيين للتعبير عن أسفها في أوقات مختلفة من أن يعيش من أسمتهم الصحفيين المستقلين في تونس بسبب الممارسات الأمنية تحت الضغط المتواصل. توظيف الإدارة و القضاء: وهو الإجراء الذي تشتكي منه دوما صحف المعارضة التي تريد أن تحافظ على خطها النقدي. فهي تقول أن الحكومة التي تهيمن على جميع الإدارات وعلى القضاء، توظف الإدارة لحرمانها من حقها في الإعلان العمومي و التمويل الذي يخصص للصحف كما تتولى الحكومة حسب رأيها توظيف القضاء لافتعال شكاوى ضدها وإضعافها والحد من انتشارها مثلما ذكرنا سابقا. إن تلك السياسة الحكومية المحكمة منعت على امتداد سنوات من قيام واقع إعلامي تعددي حقيقي في تونس وذلك على الرغم مما تردده الحكومة من أن صحف المعارضة موجودة، والعناوين الخاصة أكثر من العناوين الحكومية في البلاد لان العبرة في هذا الأساس بمضمون ما يكتب و ليس بالقرارات الإدارية الكمية والشكلية. تشن مجموعة من الصحف التونسية حملة على عدد من الصحفيين و القنوات العربية المستقلة لا تخلو من ألفاظ نابية. كيف تنظر إلى مثل تلك الحملة؟ أرى أن تلك الحملة هي أحسن تعبير عن سياسة الحكومة في الإعلام فهي تنبع من رؤية أحادية مفادها أن الحكومة تتحكم في الإعلام في الداخل و تلاحق الإعلام في الخارج إما بالإغراءات حتى يكتب في اتجاه واحد لصالحها وهو أسلوب اقرب إلى الدعاية منه الى الإعلام. وإذا تمكنت وسائل إعلام من الصمود أمام الإغراءات و الضغوط وحافظت على خط مهني موضوعي و نشرت عن تونس أخبارا لا تعجب الحكومة التونسية أو فسحت المجال لشخصيات غير مرغوب فيها في تونس فهي تعطي الأوامر لمهاجمتها بأسلوب يعطي صورة سيئة للغاية عن الإعلام التونسي. ومن المفارقات التي لم تستوعبها الحكومة بعد أن ذلك الأسلوب يقود إلى نتائج عكسية أي عكس الصورة التي تريد الحكومة الوصول اليها فهو يبرز مدى هيمنة الحكومة على القطاع الإعلامي كما يصور مدى ضيق صدر الحكومة بأي خط نقدي. أنت أيضا تتعرض منذ أكثر من أربع سنوات إلى المنع من العمل كمراسل قناة "الجزيرة"، كما اشتكيت أكثر من مرة من ضغوطات و اعتداءات... لا يمكن أن افصل ما أتعرض إليه من منع وضغوطات عما يتعرض إليه كل زميل أراد التمسك باستقلاليته و نشر الأخبار كما هي في الواقع دون حذف آو تنميق سواء تعلق الأمر بأخبار تهم الحكومة أو تهم منافسيها . باختصار شديد أقول انه ليس هنا في تونس قبول رسمي للإعلام المستقل سواء عبر عنه أفراد او مؤسسات. وكل من يريد تجاوز تلك القاعدة الرسمية يتعرض إلى ما نتعرض له. لكن عزاءنا أن العالم يسير نحو الحرية وليس نحو الانغلاق، وانه مهما حاول دعاة الإعلام الموجه والأحادي، فإنهم لن يقدروا إخفاء الحقيقة وإن نجحوا في تعطيل من يسعى إليها إلى حين.