انضبطت وسائل الإعلام في تونس بشقيها الحكوميّ و الخاص خلال الأيام الأخيرة للتحامل على قناة "الجزيرة " القطرية و التشهير بها و وصمها و من يشرف على تمويلها بأبشع النعوت وأقساها. وفي خضمّ الحملة المسعورة التي استُنزفت فيها طاقات الصحفيين التونسيين وأقلامهم وبرامج بعض القنوات الفضائية وساعات بثها، برزت وجهتا نظر متناقضتان جوهريّا. يدافع أصحاب الرأي الأولّ عن قناة الجزيرة القطرية ويعتبرون الهجمة التي تشنّ ضدها حاليا تأتي بعد أن عجزت الحكومة التونسية عن "ترويض" الجزيرة، وبعد أن فشلت كل المجهودات في دفعها إلى إجراء تعديلات جوهرية على رسالتها التحريرية فيما يتعلّق بالوضع الحقوقي والسياسي بتونس. ويرى هذا الفريق أن الحكومة تشرف بنفسها على الحملة ضدّ الجزيرة و أمراء قطر الذين يمولونها و أن الدافع الحقيقيّ للهجمة هو "محاولات إخراس كل صوت ناقد مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي والتشريعي الذي يراد له أن يمرّ في سلام وصمت بإعادة انتخاب الرئيس بن علي لدورة رئاسية خامسة و انتخاب تشكيلة جديدة لمجلس النواب من لون واحد. الرأي الثاني يرى العكس تماما، فالجزيرة بالنسبة إليه "قناة اخوانية طالبانية" تمثّل مشروعا سياسيا رجعيا ولا علاقة لها بالإعلام و أبجدياته لا من قريب و لا من بعيد.و يرى متبنّو هذا الموقف أن الجزيرة تسوؤها الانجازات الحداثية و التقدمية التي تحققت لتونس في ضل قيادة الرئيس زين العابدين بن علي فتحاول الشوشرة و التضليل على تلك المكاسب و الانجازات عبر التركيز على بعض الانتهاكات و السلبيات و تضخيمها وجعلها مادة صحفية دسمة و الغاية في نهاية المطاف "شيطنة " الجمهورية التونسية و تأليب الرأي العام التونسي ضدّ حكومته. عموما هذان الموقفان يطغيان على الساحة الإعلامية في تونس و إن كان هذا لا ينفي وجود مقاربات أخرى تنسّب الموقفين و تعتبر المعركة المستعرة حاليا تخفي أكثر من مجرد "إساءات متبادلة" أو حقد على الانجازات" أو حتى "ضيق صدر" صادر عن حكومة عربية تجاه وسيلة إعلام جريئة. بعيدا عن هذا وذاك، لا يمكنني كشاب تونسيّ أن أصدّق أنّ التونسيين ينتظرون الديمقراطية من أمراء قطر و جزيرتهم، و لا اعتقد أن ما يجري من انتهاكات حقوق الإنسان و التضييق على الأحزاب المعارضة الحقيقية و منظمات المجتمع المدني و الصحفيين المستقلين في بلادي، قد يحجب أمامنا انتهاكات مماثلة تجري كل ثانية في إمارة قطر و تتغاضى عنه éالجزيرة لأسباب يدركها الجميع. و في ذات الوقت لا أصدّق تخوّف الحكومة التونسية من "غزو مشروع طالباني أو إخواني مدمّر" يستهدف البلاد بما يفسح لها المجال للدفاع عن حرمة تونس و مواطنيها باستعمال كل الأساليب بما فيها شتم الأشخاص و هتك أعراضهم وتخوين من يقف إلى جانب حقّ الجزيرة في النقد و التغطية و اتهامهم بالعمالة. لست أدري هل أكون صوتا عاقلا عندما أتوجه إلى معشر الصحفيين التونسيين وأنبّههم إلى أنّ الزوبعة التي تثار حاليا ضد الجزيرة و الجبهة المفتوحة ضد قطر ووسائل إعلامها هي معركة مغلوطة وقصف موجه للجبهة الخطأ. أقول هذا لسبب بسيط وهو أننا في حاجة إلى أقلام الصحفيين و برامجهم ومجهوداتهم و نضالاتهم لتحرير قطاع الإعلام التونسي المنكوب الذي يعيش أسوأ الفترات في مسيرته العريقة. فلو تمعّن كلّ من "قادة" الحرب على الجزيرة و "أبطال المقاومة" ونصرة الجزيرة، لواقع الحريات الصحفية في بلادهم و تدهور قطاع الإعلام لتيقّنوا أنهم في المرحلة الحالية في غنى عن تقييم قناة أجنبية آو الدفاع عنها او حتى التهجم عليها. أتخيل أحد الزملاء في بلد ديمقراطي وهو يتابع المقالات التشهيرية ضد الجزيرة و الأخرى المدافعة عنها ليقول:" هل وصل التونسيون و إعلامهم إلى هذا الحد من الترف و التخمة في مجال الحريات الصحفية حتى يقيّموا تجربة الجزيرة كوسيلة إعلام لها مكانتها في العالم ؟". يقول مثل تونسي شعبي "ذيلها حلفاءو تقفز في النار"( الحلفاء نبات جبلي يستعمله البعض لإيقاد النيران) وهو مثل يختزل المشهد الإعلامي التونسي الذي تتجاذبه مقاربتان: مقاربة السلطة التي لازلت تعتبر الإعلام أداة أو وسيلة ضرورية ومكملة لسياسة الحكومة مهمتها الترويج لإنجازاتها وسياستها وبطولاتها و التسبيح بحمد ما تحقق دون المطالبة بالمزيد. ومقاربة ثانية يتبناها الإعلاميون المستقلون و بعض الأوساط المعارضة لسياسة الحكومة و قوامها أن الإعلام يجب أن يكون مستقلا عن السلطة، ينقد و يتابع و يطرح البدائل بدون رقابة أو ترويع أو قمع. ونشير هنا إلى أنّ المشهد الإعلامي في تونس كغيره من دول العالم العربي ضلّت تحكمه مقاربة السلطة التي تقوم على احتكار الجسم الإعلامي وتسليط الرقابة "السوفياتية" عليه ومنعه من الاضطلاع بدوره وسط إجراءات ديكورية تقوم بها الحكومة بين الفينة و الأخرى دافعها ليس الإصلاح و إنما الالتفاف على الضغوط الخارجية المطالبة بتحرير هذا القطاع الحساس. لا تريد الحكومة في تونس لهذه الصورة المؤسفة أن تظهر للعالم: مجموعة من الصحافيين المنخرطين في الحزب الحاكم و المؤتمرون بأوامر وزراء في الحكومة الحالية يستعدون خلال أيام قليلة إلى عقد مؤتمر "استثنائي" أو ا"انقلابي" على المكتب التنفيذي المستقل و المنتخب لنقابة الصحفيين. تزايد جرعة التضييق على وسائل الإعلام إما بالحجز المفضوح آو المقنّع لأعداد سابقة من صحف "الموقف و الطريق الجديد و مواطنون المعارضة، مع تواصل حرمان كلّ من "الموقف" ومواطنون" من الإشهار و التمويل العموميين، بالإضافة إلى التضييق على قناة "الحوار التونسي" وكادرها ومطاردة مراسليها ودفعها للصمت. تواصل سياسة حجب المواقع الالكترونية المعارضة و المستقلة و المدونات و المنتديات السياسية و المهتمة بقضايا حقوق الإنسان وملاحقة أسرة تحرير راديو "كلمة" لبثهم للبرامج الإذاعية عبر الانترنت بشكل "غير قانوني" حسب زعم الحكومة التي لم تقم إلى اليوم بتنظيم النشر الالكتروني و إخضاعه لمعايير قانونية. الإصرار على عدم تحرير قطاع الإعلام و منع التراخيص عن العشرات من النشريات و الصحف و المجلات و الإذاعات و تفويض وزارة الداخلية بالإشراف على تلك التراخيص التي اثبت الزمن إنها لا تُمنح سوى للموالين و المقرّبين. رداءة أوضاع الصحفيين التونسيين المادية و المعنوية وتعرّض العديد منهم إلى الاعتداءات المادية و اللفظية ومثول بعضهم أمام القضاء...إلخ لست أدري إن كان الصحفيون التونسيون المهتمون بمحاولة إخراس قناة الجزيرة و دفعها إلى "تجاهل" الشأن التونسي و تغييبه من نشرات أخبارها، على إطلاع بهذا الكم من الانتهاكات و الضغوطات على الجسم الإعلامي في بلادهم. وسواء اهتموا أو لم يفعلوا، فإن كل المؤشرات تدلّ على أن الجزيرة اتخذت لنفسها مكانا في العالمين العربي و الإسلامي لأنها قناة مهنية تفوقت على النموذج الإعلامي الرسمي المتخشّب و انحازت لنبض الشارع بغضّ النظر عن المشروع السياسي الذي تروج له. وسواء اهتم صحافيّو تونس بحالهم المنكوب أو لم يفعلوا فإنّ الجزيرة سواء أخبرت عن الانتهاكات التي يتعرضون لها آو لم تفعل، فإنّ الثابت أنها لن تناضل نيابة عنهم ليفتكوا حرياتهم و حقوقهم التي تصرّ الحكومة على عدم التفريط فيها. قصارى القول أنّ المجهودات و الطاقات التي تستنزف حاليا لإدارة معركة مغلوطة ضد الجزيرة، تضلّ نقطة سوداء لا تشرف الصحافة التونسية التي هي في حاجة إلى كلّ جهد و نفس، لتحريرها من الاحتكاريين و أصحاب التصوّر السوفياتي لوظيفة الإعلام، و للنهوض بها من الدخلاء و كل من سوّلت له نفسه التفكير في جعل الصحافة رديفا للارتزاق و الولاء الأعمى. *صحافي من تونس