تتلاءم القوى الأمبريالية الجديدة مع كل مرحلة من مراحل التاريخ الحديث بدهاء مستغلة كل مرة هذه الموجات من ( الموضات ) الحضارية لتنفيذ مخططاتها و إحكام سيطرتها على الأمم . اليوم تلبس هذه الأمبريالية قناع " العدالة الدولية " و تصدر محكمتها المزيفة في 4 مارس الجاري في لاهاي مذكرة توقيف و جلب ضد رئيس دولة عربية هي السودان. و منذ ألف سنة حين بدأ الصراع بين الإسلام المنتصر و الغرب المنكسر، تجندت أوروبا المسيحية لشن الحروب الصليبية على دار الإسلام فلبست أوروبا قناع المدافع عن أكفان السيد المسيح و القضاء على الدين الكافر ( بهذه العبارة خطب البابا يوربان الثاني في كاتدرائية كليرمون سنة 1095 معلنا بداية الحروب التي دامت قرنين). ثم جاءت موضة التمدين فجهز نابليون جيشا عرمرما سنة 1798 و هاجم مصر و الشام، و حين قاوم المسلمون هذه الهجمة الدموية أطلق الغرب على المقاومين عبارة الإرهابيين ( أنظر تاريخ فرنان دونون المؤرخ الذي شارك في قتل طلاب و علماء الأزهر). ثم حلت كارثة الإستخراب التي سماها الأوروبيون بالإستعمار و كانت الأمبراطوريات الأوروبية ترفع فيها شعارات " إنقاذ المسلمين من الجهل و الفقر " بينما كانت فرنسا عام 1830 عاجزة عن تسديد ديونها للجزائر لا العكس ! و بالطبع البقية يعرفها جيل القراء العرب ممن عاشوا كارثة سرقة فلسطين و تدمير القوة العربية العسكرية في يونية 1967 وصولا إلى موضة جديدة هي الحرب على الإرهاب ( بل و جر الشعوب العربية إلى جنات الديمقراطية بالسلاسل!) في العراق و أفغانستان و لبنان و العالم الإسلامي كله مما راح ضحيته إلى اليوم ملايين المسلمين ! أما الموضة الراهنة التي إنطلت حتى على بعض المثقفين العرب فهي " رسالة الغرب في ملاحقة جرائم الحرب و ضرورة حماية الأقليات العرقية و استعمال حق التدخل " وهو شعار كالشعارات التي سبقته يبدو نبيلا و مقنعا للرأي العام العالمي. و هنا لا بد أن ننقل كعادتنا ما يراه النزهاء من نخبة الغرب نفسه حتى لا يتهمنا المتحمسون العرب الذين أخطأوا التقدير بأننا مصابون بداء توقع المؤامرة، فالسيد هوبير فدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق صرح لمجلة (لكسبريس) الباريسية في عددها الأخير بأن بطاقة توقيف الرئيس السوداني ما هي سوى عودة الممارسات الإستعمارية و تكريسا للتفوق الغربي المزعوم بل هي تعطيل لمسار السلام والأمن في إفريقيا و الشرق الأوسط، مضيفا بأن روسيا و الصين و الإتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ترفض هذه المحكمة الجنائية الدولية و مذكرتها الأخيرة، وأن هذه الأمم الرافضة للإستبداد الغربي تشكل ثلاثة أخماس سكان الأرض ! أما الصحفية الفرنسية السيدة كريستين بيار فكتبت هذا الأسبوع في صحيفة ( نوفيل سوليداريتيه ) تؤكد بأن مذكرة المحكمة المزعومة تهدف إلى نسف جهود الرئيس الأمريكي الجديد من أجل إقرار سياسات خارجية مختلفة تماما عن تخبط بوش و المحافظين الذين غادروا السلطة تحت رجم الأحذية العراقية، و كذلك إلى نسف جهود الدبلوماسية القطرية التي نجحت في مؤتمر الدوحة للسلام بدارفور في إعادة الأمور الأساسية إلى نصابها. تقول الصحفية كريستين بيار بأن محكمة الجنايات الدولية مؤسسة غريبة لأنها نشأت بفضل "مكرمات" خاصة منها ضخ مبالغ ضخمة من الملياردار جورج سوروس المعروف بميوله المحافظة على طريقة الأمبراطورية البريطانية وهو صديق حميم للورد مارك ملوخ براون سكرتير منظمة الكومنويلث و متحالف طبيعي و أيديولوجي مع نظريات المحافظين الجدد من أقطاب النخبة النافذة اليهودية في فرنسا أمثال برنارد هنري ليفي و أندري غلوكسمان وباسكال بروكنير وهم يكتبون بشكل يومي في الصحف الأوروبية لدعم مخطط نسف كل جهد سلمي عربي أو دولي لإنقاذ دارفور ضمن السيادة السودانية. مع العلم بأن الدمية السودانية التي يحركها هذا الفريق هو رئيس جيش تحرير السودان ! وحيد محمد النور الذي يتكلم من باريس و ينتقل دائما إلى إسرائيل للتنسيق مع الخارجية الإسرائيلية و تؤكد الصحفية كريستين بيار نقلا عن صحيفة (هاأرتس) بأن السيد النور يرتبط بصلة وطيدة بأحد كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الإسرائيلية ( أموس جلعاد ) وهو يملك مكتبا سياسيا في إسرائيل و يقيم في باريس منذ صيف 2007 . و إذا أضفنا إلى هذه الحقائق المريبة توقع مستقبل إنتاج النفط في السودان و امتناع الرئيس البشير عن إحتكار الغرب لموارده الطبيعية و تيسيره للشريك الصيني حتى يشارك في الحقل النفطي السوداني و مواقفه من مخططات السلام الزائف في فلسطين فنحن نفهم خلفيات و أسرار مذكرة التوقيف المخزية ضد الرئيس البشير في حين لا مذكرة بشأن مرتكبي مجازر العراق و أفغانستان و غزة و جنين و لبنان و غروزني ! إننا بكل بساطة ندخل مع الغرب المتطرف العنصري مرحلة جديدة من موضات الصدام الحضاري تطلق هذه المرة شعار العدالة الدولية ! تماما كالمشعوذ الذي يخرج من البرنيطة مرة حمامة و مرة أرنبا ونحن نتابع النمرة في سيرك العلاقات الدولية ! الغريب أن هذه اللعبة القديمة تجد من يصدقها من العرب المغرورين ! *رئيس الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية بباريسسرارأ