ليس من السهل تناول الوضع في فلسطين و ما حولها بالتحليل عندما يكون الجميع بانتظار الكلمة الفصل التي سيعلنها العسكريون من مركز عملياتهم الحربية ... و إن الذي يجري من تدمير للبنى التحتية في قطاع غزة و لبنان و قتل للإنسان و الحيوان لا يحتاج إلى تحاليل وافية أو خطب حماسية شافية ، و لكنه يتطلب مواقف حازمة لردع العدوان من القادرين و يحتاج إلى دعم و التفاف و مساعدة من الشعوب الإسلامية ثم من الإنسانية جمعاء، إذا كنا فعلا كما يقال نعيش في قرية أرضية واحدة في زمن عولمة لم تعد تسمح بأن ينفرد طرف باتخاذ قرار حرب أو سلم ... هذه المعاني و ما يشابهها تلح علينا و نحن نتابع الأحداث الجارية في المناطق المنكوبة عن طريق القنوات الفضائية التي نجحت في تغطية الحرب المعلنة من طرف واحد بفضل توفر فريق من المراسلين ليس اقل شجاعة من المقاتلين الذين يقومون بواجبهم في مواجهة العدوان بما يستطيعون . وبالتالي فنحاول فقط تناول بعض العناصر التي نساهم بها في النقاش الدائر بين المهتمين بهذا الشأن و الذين سيجدون لنفسهم فسحة لمتابعة مختلف الآراء التي تحاول أن تفهم ما يجري ... "لا شيء سيمنعنا من بلوغ أهدافنا لإعادة الهدوء لحدودنا الشمالية " أولمرت كلمات صرح بها رئيس الحكومة الإسرائيلية في اليوم الخامس مند انطلاق العدوان مستندا فيها على الدعم الدولي المباشر الذي تلقاء إسرائيل من" بترسبورغ "حيث ينعقد مؤتمر الثمانية الكبار و لكنه أيضا يعتمد على الأنباء الآتية من لبنان التي تشير إلى حقيقة موازين القوى وكذلك على نتائج اجتماع الجامعة العربية التي رفع الأمر إلى مجلس الأمن .أما نحن فنعتقد أن صدقية هذا التصريح مع الأسف تستند إلى المعطيات الواقعية و التجارب التاريخية التي لا نرى فائدة اليوم من التفصيل فيها لحاجة الظرف إلى تعبئة أكثر ما يمكن من القوى لدعم المقاومة . لكن ذلك لا يجب أن يدفع بنا إلى تبني وجهة النظر التي تعدنا بالنصر القادم على قياس ما حصل في حرب الكويت سنة 1991م و نبدأ بتحليل وجهات النظر المختلفة لأنها في نظرنا ستقودنا إلى إدراك حقيقة موازين القوى و لعلها تبرر حديثنا عن صدقية تصريحات المسؤول الإسرائيلي الكبير إن المتابع لمختلف المواقف الرسمية و التحليلات التي يدلي بها الحكام و الرسميون و المراقبون السياسيون سيخلص لا محالة إلى أن الساحة العربية تتوزع على فريقين يحاول كل منهما فرض وجهة نظره ، الفريق الأول يدافع عن أطروحة الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني الذي لا تنفع معها المواقف الداعية للتعقل و الاستعداد للمضي قدما في مشاريع التسوية التي لن تكون إلا مغشوشة ، و لن تصب إلا في مصلحة العدو الذي سيمضي قدما في تنفيذ مخططاته التوسعية . و يتناول العدوان الحالي على لبنان على أنه جزء من مخطط إسرائيل الهادف لتأبيد هيمنته على المنطقة بشكل عام و فرض نفسها لتتدخل في الشأن اللبناني بما يجعلها صاحبة الكلمة الفصل فيه ، و بالتالي فهذا الفريق لا يعطي أية أهمية للعملية الجريئة التي قام بها حزب الله و أسر على إثرها الجنديين باعتبارها السبب فيما يجري و لكنه يقوم بتثمينها و التنويه بها بما هي النموذج الأمثل للأسلوب الذي يفهمه العدو ... و باختصار لا يريد هذا الفريق أن يتحدث عن الأسباب المباشرة باعتبارها موضوعا مضللا و يركز اهتمامه على الفعل من أجل رد العدوان ويمارس خطابا يشيع الثقة في المقاومة و قدرتها على تحمل مسؤولياتها و يبشر بمفاجئاتها التي يمكن أن تحسم نتيجة المعركة لصالحها ... الفريق الثاني ، يجد نفسه محرجا ، فيدقق في كلماته و عباراته حتى لا يتصادم مع المواقف الشعبية التي تطالب بالرد الحازم على العدوان ، ولكنه يمارس على أرض الواقع مواقفه التي تحمل المقاومة اللبنانية و الفلسطينية جزءا من المسؤولية في إشعال فتيل الحرب و استفزاز الآلة العسكرية الصهيونية لتنطلق في عمليات استعراضية بما في ذلك من تدمير و قتل و إجراء تدريبات و مناورات حرية واسعة قد يحتاجها الجيش الإسرائيلي لتحسين قدراته و الإبقاء على درجات تأهب عالية قبل أن تكون استجابة لقرار سياسي من حكومته تريد به استعادة هيبتها في أعقاب عمليتين موجعتين نالت من سمعتها و قد تفتح الطريق على النسج على منوالها ... هذا الفريق متكون أساسا من الحكومات العربية و النخب التي تسير في فلكها من مستشارين و إعلاميين و مثقفين . وهم في الحقيقة يدافعون عن خياراتهم السياسية الكبرى التي بنيت على أساس التفويت في القضية الفلسطينية إلى أصحابها و الانصراف إلى بناء و التنمية العمرانية و الاقتصادية و الاستجابة لمتطلبات العولمة ، و ما تفرضه من فتح الأسواق و تتداخل رؤوس الأموال و تشجيع الاستثمار و الضغط على المصاريف العسكرية باعتبار أن ذلك هدر للطاقات و سيب في تخلف جهود التنمية .. كل فريق يعمل على دعم موقفه في إطار المعادلات السياسية القائمة و يعتقد أنه يفهم جيدا ما تفرضه عليه موازين القوى من مواقف و ممارسات . و الحقيقة أن الطرف الأول يعبر عما يجب أن يكون في حين أن الفريق الثاني يتحدث عما هو كائن ، لكن النتيجة واحدة بالنسبة للأمة العربية و قضيتها المركزية وهي أنها ستبقى عاجزة عن مواجهة التحديات الخطيرة التي تعيشها ، و رغم أن الأطراف الأولى لم تعد تكتفي بالمعارضة السياسية و التعبير عن خيارات الشارع العربي بالمظاهرات السلمية و لكنها أصبحت تمارس مواقفها المعلنة كما هو واضح من خلال نشاط المقاومة في فلسطين و لبنان أو من خلال ما تفعله السلفية الجهادية من أعمال على المستوى الدولي ، فإن ذلك لم يفد كثيرا في التأثير على موازين القوى بل تتسبب فقط في إحراج الأطراف الأخيرة التي تسيطر بالأساس على دوائر القرار و تعتبر نفسها مسؤولة عن الحاضر و المستقبل وهي تعيش أسيرة خياراتها الكبرى من ناحية و تجد نفسها مرتهنة في قرارها إلى القوى الدولية التي ربطت مصيرها بها بإرادة منها أو بدونها ... و بالتالي ستجد قوى المقاومة نفسها بدون سند قوي يمكن أن يحمي ظهرها و يؤمن التموين اللازم لمواصلة مشوارها على النحو الذي نراه اليوم في فلسطين ولبنان ، و ستعيش النخب الحاكمة معزولة عن الجماهير التي تطالبها بالوفاء بعهودها في تحقيق التنمية الرفاهية و في نفس الوقت بناء القوة العسكرية التي بدونها لن تقوى عن القيام بمواجهة العدوان و الاستقلال بالقرار . ولعل الحل يكمن في إدماج التصنيع الحربي بالحجم المطلوب في خطط التنمية الاقتصادية ولكنه قرار لم بعد من السهل اتخاذه في ظل المعادلات الدولية الحالية التي تسمح بالتدخل المباشر في شؤون الدول الضعيفة على النحو الذي نشاهده في إيران و رأيناه في العراق ... تلك هي بعض جوانب المعادلة التي تعيش في إطارها المنطقة في عصر ما بعد الحادي عشر من سبتمبر: قوى المقاومة المتمردة التي تقرر ما تفعل فتضع الحكومات العربية في موقف محرج لا تحسد عليه و تقدم لقوى الاستعمار الجديد و قاعدته المتقدمة في المنطقة إسرائيل المبررات الكافية لشن العدوان تلو العدوان من جهة و حكومات من جهة أخرى تزداد ضعفا يوما بعد يوم من خلال سياسات الخصخصة التي تفقدها السيطرة على اقتصادياتها وقبولها للتعاون مع القوى الكبرى فيما يسمى بالحرب على الإرهاب و القضايا المتعلقة به بما جعلها تفقد ما تبقى لها من استقلالية القرار و تتحول إلى إدارات إدارة أعمال . وبين هذا القطب و ذاك بقيت الجماهير عاجزة عن توظيف طاقاتها الكامنة فلا هي استطاعت أن تلتحم بقوى المقاومة خشية التعرض لسطوة البوليس التي جربتها طويلا و لا هي تقبل بتنفيذ إرادة حكومات خانعة متواطئة مفرطة في حقوق الأمة و عاجزة عن رد العدوان عنها ... حلقة مفرغة يعيش داخلها الجميع و لا يعرف أي طرف على وجه الدقة الطريق الصحيح للخروج منها . تلك هي أهم خصائص المأزق العربي الذي عبر عن نفسه بوضوح أثناء هذا العدوان الصهيوني على لبنان ... وهكذا نرى أننا قد استكملنا باختصار شديد توصيف الأوضاع العربية وأتينا على مقدماتها و نتائجها بما يساعد القارئ على إدراك صعوبة الموقف دواعي التخبط و التريث و العجز . وليس للقوى المناضلة العربية و الإسلامية التي اختارت طريق البناء الهادئ و صنع البدائل القادرة على الخروج بالأمة من مئازقها إلا الانتظار و العمل على كشف السبل التي يمكن من خلالها تقديم العون والمساعدة و القيام بالبحوث اللازمة التي على أساسها سيتم استنهاض الهمم و صنع المستقبل الأفضل . "حزب الله و لبنان يخوض معركة الأمة ، أين هي الأمة الآن من هذه المعركة؟ " حسن نصر الله إذا كان الأمين العام لحزب الله يخاطب الأمتين العربية و الإسلامية بشكل عام فنحن قد حللنا كيف تنقسم هذه الأمة بين فريقين اثنين : الأول وهو الماسك بزمام الأمور و لن يقف معه و الثاني وهو البعيد عن مواقع القرار و لن يستطيع أن يفيده إلا كما أفاد صدام حسين في "أم المعارك"لسبب بسيط هو أن قواه الحقيقية تتوزع اليوم بين السجون الكبيرة و الصغيرة و المنافي أو تبحث لنفسها عن الأشكال التنظيمية التي بها تستطيع أن تواجه غطرسة الاستبداد و طغيانه تبقى الشمعة المضيئة في هذا النفق المظلم تدعو الجماهير للالتفاف حولها و الاستعانة بأنوارها لتجاوز المحن و الولوج على عصر الحرية و البناء و التحرير . إن هذه القوى التي لم يصبر جزء منها على الانتظار فقرر الانخراط في المقاومة المسلحة هي الدليل على أن الأمة لا زالت تملك القدرة على الفعل و رفض الاستسلام و الثبات على نهج الشرفاء ، نرى ذلك اليوم في فلسطين و لبنان و تابعناه في كل بقعة من أوطاننا الممتدة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي . و تبقى في النهاية مأساتنا الحقيقية في نجاح العدو في تحييد طاقات الأمة أيام المعارك المصيرية لتحسب بعد ذلك في عداد المهزومين وليتواصل انتشار ثقافة الهزيمة بين الناس ، لم تشأ في هذا المقال أن نتحدث عن المحاور المتصارعة في هذه المعركة الدائرة اليوم على الساحة اللبنانية كما يتردد باستمرار لأننا نستحيي من الحديث عن محاور و نحن نشاهد المعركة تدور بين حزب الله و الجيش الصهيوني بما يملك من إمكانيات عسكرية هائلة . معركة يسيطر فيها العدو على الجو و البحر و يختار في راحة بال المواقع التي ستتعرض للقصف و يجد الدعم السياسي المطلوب لتبرير عدوانه الغاشم . معركة تكتفي فيها الأمة التي يراد استحمارها و إهانتها بالفرجة بينما يتبادل أصحاب القرار فيها على تصريحات الشجب و التنديد و دعوات التعقل و السلام و الحرص على عدم تعريض المنطقة لأخطار الحرب المدمرة و كأن المباني التي تقصف و الجسور التي تدمر و الطرقات التي تتعطل و المصانع التي تهدم و الأرواح التي تزهق في لبنان ليست علامات حرب أو أن لبنان لا ينتمي إلى المنطقة . كلام يقال لعله يملا شيئا من الفراغ الذي تركته الجيوش التي بنيت و جهزت للدفاع عن الأوطان كما نسمع دائما ، لكنها تمتنع عن المشاركة في المعركة بما فيها الجيش اللبناني الذي يعتدى على أرضه وينتهك عرضه . كلام قد يدعو البعض منا للضحك و لكنه ضحك كالبكاء ... لا نريد أبدا التقليل من شأن المقاومة التي يشرفنا أن نقف إلى جانبها ولكننا أيضا لا نقبل بالخطاب العربي "المتكرر" الذي يبشر اليوم بأن العدوان لن يحقق أهدافه المعلنة لأنه لن ينجح في إملاء شرط نزع سلاح حزب الله مهما فعل بالبلد الشقيق ويريدنا أن نقتنع بأن حجم التدمير الذي سيلحق لبنان مهما عظم لن يكون هزيمة جديدة لنا لسبب بسيط وهي أننا على يقين أنه بعد أن تضع الحرب |أوزارها سيحتاج الشعب اللبناني لعشرات السنين ليعيد بناء ما دمر فضلا عن المآسي الإنسانية التي ستخلفها هذه الحرب المتكافئة . وليس هذا كما يذهب في ظن المتحمسين خوفا من الحرب و نتائجها المنطقية و لكنه دعوة إلى أن لا تدخل الأمة حربا إلا بعد أن توفر أسباب النصر وهي في قضية الحال و بكل تأكيد.. لم تفعل ...