حين يقرّر صحافي ما البحث عما يهم قراء صحيفته في بلد مثل تونس، فإن المهمة تبدو سهلة لحظة التفكير الأولى. أليست واحدة من الدول العربية والإسلامية والأفريقية البعيدة كثيراً عن عدسات القنوات العربية وأقلام صحافييها معظم أيام العام؟ أو ليست الرقعة التي عبر منها الفاتحون المسلمون إلى افريقيا وأوروبا؟ ألم تحدثنا عن الفارس عقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد؟ أم لم تكن منجم الفقهاء العظام كأبي زيد القيرواني وسحنون وبن خلدون والطاهر بن عاشور؟ وقبل ذلك وبعده أينسى أنها أرض رجل قرطاج القوي هنيبعل الذي دوّخ الغرب بكبريائه؟ إلى غير ذلك من استفهمات تطول في بلد تعاقبت عليه الأمم والحضارات، وتعايشت على ثراه وتقاتلت وتصالحت وتحاربت. إلا أن تلك التساؤلات المحرضة على جواب سهل، بنكهة عالية من الرومانسية الخلابة، قبل أن تبلغ ذروة الاستمتاع بها، تكابد سيلاً آخر ينقضها، أو يفسد جاذبيتها، بحق كان ذلك أو زعماً. فأول عربي تحدثه ولو همساً عن توجهك إلى تونس تفاجأ منه بوابل من الهجاء والانطباعات، التي ستفعل فيك حتماً فعلها مهما كانت درجة المقاومة لديك. إن سألت عنها محركات البحث، جادت عليك بما يؤلفه المتطرفون التونسيون و أنصارهم، والحزبيون اليساريون، مما يحبط الجاهل تماماً للواقع. أو طلبت من زميل صحافي أو كاتب نصحاً بعد أن تسرّ إليه بالمهمة، ينصحك «أعوذ بالله. ماذا ستكتب هنالك. لا شيء يذكر . أضف إلى ذلك بطش أمني. وسمّاعون وجواسيس لا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلا حاسبوك عليها وراقبوك». أما الإسلاميون الذين كانوا محوراً رئيسياً في الرحلة إلى تونس، فانطباعهم كان أقسى وأشد إحباطاً. سألت أحدهم ما إذا كان لديه بعض الصلات بشخصيات إسلامية أو فكرية أو جمعيات محظورة أو مرخصة، فرد عابساً «اكتب وصيتك. وإياك أن تصلي في المسجد. حاول أن تتصنع أنك تشرب الكحول حتى لا تشتد الرقابة عليك. الإسلام في ذلك البلد غريب. لا يغرنك ما قاله الشيخ سلمان العودة حين زار تونس، فهو شيخ لم يغادر الفندق الذي سكن فيه والندوة التي استضيف فيها. إن قررت الذهاب إلى هناك فتعوذ بالله من زبانية النظام». ثم جلس يعدد لي الملفات الحرجة في نظره مثل الحجاب، وسياحة الشواطئ، وتاريخ تونس السياسي من عهد بورقيبة إلى رئيسها الحالي زين العابدين في التصادم مع أقطاب الحركة الإسلامية. ومع محاولاتي دعم الصورة الإيجابية لكي لا تطغى على القاتمة، فيكون ما أكتب عبارة عن تصور مسبق لا أكثر، إلا أنني أقر بتجاوزي أحياناً حدود المقبول في إساءة الظن بكل شيء يعرض علي من جانب المرافقين، الذين على رغم أنهما مدنيان خالصان، أحدهما صحافي والآخر أستاذ جامعي، إضافة إلى السائق، إلا أنني تعاملت مع ثلاثتهم على أنهم ضباط أمن، يفعلون ما يؤمرون. ولذلك ما اقترحوا علي برنامجاً إلا قلبته رأساً على عقب، بل كل ما اتفقت معهم عليه قبل الذهاب نقضت عراه، خوفاً من أن أُستغفل. ولا أدري إذا كانوا يعرفون أنهم كلما تركوني في محل إقامتي، أبحث عن سيارة أجرة أستقلها، فأقابل الناس وأصور وأدوِّن وأتكلم، ولا أدري هل سيسامحونني على تفسير حتى مبادراتهم البريئة الحسنة بكثير من سوء الظن، وبحذر شديد في أحسن الأحوال!