: ربما يغيب عن أذهان التونسيين والمصريين على حد سواء أن تاريخ معاناة الصحافة والأدب والأدباء لم تبدئ في تاريخنا العربي الحديث فحسب , اذ أن التنقيب بين صفحات المبدعين وسيرهم يكشف عن حجم هائل من المعاناة والاثارة في سير أدباء عظام بحجم من نفته مصر وجحدته تونس وقال عنه أهله بأنه "ابن جارية" ! ... بيرم التونسي أديب وشاعر تتنافس على نسبته اليها بعد وفاته كل من تونس ومصر مثلما هو شأن تنافسهما على تملك تراث المؤرخ الكبير بن خلدون ... ولد الشاعر والأديب الوطني محمود بيرم التونسي في الاسكندرية سنة 1893 وعاش بمصر الى حدود سن السابعة والعشرين ثم غادرها منفيا الى تونس بسبب مقالة هجى فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد , وقد تلقته تونس بضيق صدر حين قيل له من قبل بعض أقاربه بأنه ابن الجارية التي أهداها السلطان العثماني الى جدهم ... كلمات ثقيلة ثقل الرصاص , كانت في وقعها حين اصطدم بسوء دلالاتها النفسية والاجتماعية في بئة تونسية كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي وتوحي للتونسيين بسلطة ظاهرة للبايات . سنة 1920 وطأت قدما محمود بيرم التونسي تونس منفيا من تراب المحروسة , ليجد نفسه في مواجهة واقع تونسي لم يكن هو الاخر اعلاميا وسياسيا أفضل من واقع مصر , فحكامها مطلع العشرينات من القرن الماضي منعوه من مواصلة مشواره الصحفي ... مشوار كان قد دشنه في مصر بقصيدته الشهيرة : المجلس البلدي , والتي جاء في بعض أبياتها النقدية اللاذعة مايلي : كَأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي أخشى الزواجَ إذا يوم الزفافِ أتى أن يَنْبَرِي لعروسي المجلسُ البلدي ورُبَّمَا وَهَبَ الرحمنُ لي ولداً في بَطْنِها يَدَّعيه المجلس البلدي وإنْ أقمتُ صلاتي قلتُ مُفتتحاً اللهُ أكبرُ باسم المجلس البلدي أستغفرُ الله حتى في الصلاةِ غَدَتْ عِبادتي نصفُها للمجلس البلدي يا بائعَ الفجلِ بالمِلِّيمِ واحدةً كم للعيالِ وكم للمجلسِ البلدي مشوار أبى بيرم التونسي أن يوقفه مع مراده من الحيف الاجتماعي والاقتصادي الذي ابتليت به مصر قبل أكثر من قرن , بل أراد مواصلته حين كتب قصيدته الأخرى ليتحدث عن غياب الشرعية الدينية عن الولادة السياسية لوريث العرش فاروق ابن الملك فؤاد , حيث أعلن عن مولد فاروق في 11 نوفمبر سنة 1920، ولم يكن قد مضى على زواج الملك فؤاد بزوجته الثانية نازلي إلا قرابة سبعة أشهر، اذ أشيع أن الحمل في فاروق حدث قبل عقد القران - فكان أن كتب بيرم زجله بعنوان "البامية السلطاني"، ومما جاء فيه : البامية في البستان تهز القرون والديدبان داير يلم الزبون وجنبها القرع الملوكي اللطيف صهين وقدم وامتثل يا خفيف نزل يلعلط تحت برج القمر ربك يبارك لك في عمر الغلام يا خسارة بس الشهر كان مش تمام ... لم يكن مشوار بيرم سهلا بعد أن اصطدم باهات مصر وتأوهات تونس , فقد ضاق به الوطن العربي وتوجه الى فرنسا بحثا عن الحرية التي افتقدها في أبرز بلدين عربيين عرفا بواكير نهضتهما الثقافية ... من تونس توجه الى مرسيليا ليعمل حمالا في موانئها مدة سنتين , ثم سرعان ماعاد بأزجاله اللاذعة الى تراب مصر , التي لم تتحمله بأشواقه للعدل والحرية فأعادت نفيه الى فرنسا من جديد .. احتضنته باريس , ثم ليون التي اشتغل باحدى شركاتها الكيميائية ثم سرعان ماطرد منها ليعاني الجوع والتشرد ويحمل من جديد الام واهات مواطنيه في مصر , ليمتع في تلكم الأجواء بأدب المقارنات حين حنت به الذاكرة الى معاناة وفقر أهالي مصر ... كتب بيرم انذاك قصيدة برع فيها في نقد باريس وتقليدها , وقد جمع فيها زاجلا عمق مرارته السياسية تجاه عاصمة أملت بغلبة سلطانها على المنطقة تقليدا أعمى , ومما جاء في رائعته حول باريس : باريس تقول قصّروا الفساتين ... نقصرها ترجع تقول طّولوا ... حالاً نجرجرها و في الشتا - قوّروا القمصان ... نقورها و في الصيف زرّروا الأرّواب ... نزررها و تقول باريس أحلقوا الشنبات .. نحلقها و تقول لنا الدقن مودة اليوم ... نلزقها و تقول لنا استعملوا الشورتات ... نسبقها و تقول كمان اقلعوا الطرابيش ... نكعورها و تقول " فيينا " ارقصوا.... نحيّ ليالينا و تقول " موناكو " العبوا .... نفتح نوادينا و تقول " جلاسجو " اشربوا ... نسكرلها طينة و الخمرة قال مش حرام و الجوزة نكسرها عميان و عايزين لنا مجانين تسحبنا و لو يخوضوا بنا الأوحال يعجبنا مين شاف خلافنا أمم بتحب جزارها يارب تسلم باريس و تصوم وتصلي و تكون موضتها سبح ولاّ طرح تلي عشان ما تصبح سعاد وأم الهنا و نيللي غير ربنا ذو الجلال ما يشوفش ضوفرها ومازال بيرم التونسي متأوها ومتألما في منفاه حتى كتب عن اهاته الثلاث باللهجة العامية المصرية , وقد جاء في احدى لقطاتها التاريخية مايلي : الأوله اه.. والثانية اه.. والثالثة اه الأوله : مصر.. قالوا تونسى ونفونى و الثانية : تونس.. وفيها الاهل جحدونى و الثالثة : باريس.. وقي باريس جهلونى الأوله : مصر.. قالوا تونسى ونفونى جزاة الخير و الثانية : تونس.. وفيها الاهل جحدونى وحتى الغير و الثالثة : باريس.. وقي باريس جهلوتى ونا موليير الأوله : مصر.. قالوا تونسى ونفونى جزاة الخير واحسانى و الثانية : تونس.. وفيها الاهل جحدونى وحتى الغير ما صافانى و الثالثة : باريس.. وقي باريس جهلونى ونا موليير قي زمانى الأوله : شربتنى من فراقها كأس.. بمراره و الثاتية : اه فرجتنى على الجمال ينداس.. يا خساره و الثالثة : يا ناس يا ريتنى كان لى فيها ناس.. واداره الأوله اه.. والثانية اه.. والثالثة اه الأوله اشتكيها للى اجرى النيل و الثانية دمعى عليها غرق الباستيل و الثالثة لطشت فيها ممتثل وذليل الأوله اه.. والثانية اه.. والثالثة اه اهات بيرم التونسي عادت منفية من جديد الى تونس سنة 1932 , حين قامت السلطات الفرنسية انذاك بترحيل الأجانب ..., ومن هناك أصدر صحيفته الشباب وحملته أشواق الترحال الى لبنان وسوريا الذان شهدا نهضة الفكر والأدب والاعلام .., الا أن المنفى عاد ليطارده من جديد حين قررت السلطات الفرنسية ابعاده عن سوريا باتجاه بلد افريقي في الأدغال ... حملته السفينة باتجاه المنفى الافريقي الجديد , لكن وقوفها في بور سعيد أعاده باكيا ومتلهفا الى مصر التي ساعده أحد ركاب السفينة على الالتحاق بها قبل أن تواصل ابحارها باتجاه منفاه الجديد الذي أنقذته منه أقدار الاله .. في مصر استعاد بيرم التونسي الروح حين التمس عفوا سياسيا من الملك فاروق الذي خلف أباه فؤاد في الحكم , وعمل انذاك بأبرز صحف مصر , ثم كرمه الرئيس والزعيم الراحل جمال عبد الناصر سنة 1960 بجائزة الدولة التقديرية للأدب . كتب محمود بيرم للاذاعة المصرية وتعاون مع سيد درويش وأم كلثوم , التي غنت له بعضا من أشهر قصائده ومنها “أنا وانت”، “الآهات”، “هوه صحيح الهوى غلاب”، “كل الأحبة” و"الأوله في الغرام" و"القلب يعشق كل جميل" ... أحس الأديب والشاعر الوطني بيرم التونسي الذي حمل جنسيتي مصر وتونس بدنو أجله في كانون الثاني من سنة 1961 , فكتب عن الموت بعد معاناة مع داء الربو مايلي : قال : ايه مراد ابن آدم؟ قلت له : طقه قال : إيه يكفي منامه؟ قلت له : شقه قال : إيه يعجّل بموته؟ قلت له : زقه قال : حد فيها مخلّد؟ قلت له : لأ صعدت روح الأديب والشاعر الوطني المصري والتونسي محمود بيرم الى بارئها من تلكم السنة الأولى في عقد الستينات من القرن الماضي لتترك وراءها ميراثا سياسيا وتاريخيا وأدبيا عظيما ... رحل محمود بيرم التونسي من حياتنا قبل نصف قرن تقريبا , لكن قصة المنفى والملاحقة لم تغادر سماء وتراب من سار على دربه في طريق الكلمة الحرة والشجاعة... كتبه مرسل الكسيبي* بتاريخ 29 جانفي 2010 - 14 صفر 1431 ه . *كاتب واعلامي تونسي مقيم بالمنفى : [email protected]