: بدى البعض على اثر نشري لمقالي الأخير حول دموية بورقيبة في التعامل مع خصومه , متحمسا لل"مجاهد الأكبر" وميراثه كما لاتكون الحماسة ! , فقد انبرى هؤلاء لذكر خصال الرجل حتى بدى القارئ أمام مشروع "ولي صالح" وجب الوقوف على قبره بالنذور ! دافع البعض من هؤلاء عن تاريخ الرجل اعمالا لحسن نية وتقدير , وقد رأيت في تعليق هذا الصنف من القراء على المقال اضافة جميلة ونوعية للحوار , بينما أراد البعض أن يمسح الذاكرة ويمارس سياسة ذر الرماد في العيون , مستعرضا بذلك رصيد أول رئيس للجمهورية في اطار اظهاره بمظهر واحد من كبار المصلحين الذين عرفتهم تونس والمنطقة في القرن العشرين ! كنت أتلو في جهر وسر مايكتبه هؤلاء معلقين على مقالي بعيد نشره على شبكة الفايسبوك الاجتماعية العالمية الشهيرة , وقد ضحكت أحيانا لهول الكارثة حين أيقنت بأن صياغة العقل التونسي مرت على مدار عقود عبر نظام "فلترة" رسمي لايعتمد في المناهج الا مايقع تزكيته في تاريخ الملوك والسلاطين أو مايقع "تعميده" في تعليم طغت عليه ثقافة "المنتصر" بعد تصفيته الجسدية واقصائه أو سجنه لأبرز زعماء الحركة الوطنية وقادة الرأي والفكر ... وازنت في كتاباتي السابقة كثيرا حين تحدثت عن بورقيبة كشخصية سياسية لعبت دورا متقدما في حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب , وقد مضيت في ذكر خصال الرجل على الصعيد السياسي ولفت النظر الى حكمته في معالجة بعض الصراعات الدولية بالمنطقة , ولم أكن في ذلك مجاملا أو منافقا , فحين كتبت ماكتبت , كان الرجل يومها قد غادر عالمنا الدنيوي تاركا التونسيين الى أقدارهم بعد سنوات من رحيله ... أما وقد تعلق الأمر بانصاف القادة والمصلحين وكبار العلماء وأبرز رموز تيار النهضة العربية وكبار المناضلين والشهداء في تاريخ وطن كبله الاستعمار بضريبة المقاومة الثقافية والممانعة والاصلاح , فانني اخترت أن أقف على الزوايا العاتمة والسوداء في تاريخ "المجاهد الأكبر" تجنبا لاعادة تقديمه للأجيال الجديدة بصورة المصلح الديمقراطي والوطني الذي لايضاهيه اخرون في الوطنية ! فتاريخ الرجل وللأسف الشديد مليء بقيم الاقصاء والاستخفاف بالمنافسين والمعارضين , بل ان له سجلا دمويا في الخمسينات والستينات والسبعينات وصولا لسنواته السبع الأخيرة من تاريخ أول جمهورية تونسية ! لقد نظر بورقيبة الى منافسيه ومعارضيه بهذه العبارات المقتبسة من خطاباته , فقال عنهم بأنهم"هدامين"، "يزرعون بذور الحقد والكراهية"، "يشتتون شمل الأمة"، "يقوضون أسس الدولة"، "متآمرون لهم نعرة بني هلال في التخريب"، "رائد المعارضين الجشع والهيمنة"، "ذوي غايات خبيثة وخسيسة"، "المعارضون عملاء للخارج تحركهم أيادي خارجية"، "جراثيم"، "أدمغة وقلوب مريضة بكراهية هذا النظام"، "منافقون"، "خبثاء"، "سمتهم الغدر وسوء النية"، "حيوانات ضارية"، "أخلاقهم متدهورة"، "مفسدين"، "ناقصي تعليم"و"متخاذلون أيام الكفاح"... صفات قبيحة لايمكن أن تصدر عن زعيم وطني يؤمن بالاختلاف والتنوع , أو عن زعيم يمكن أن نحوله الى مرجعية وطنية حتى بعد وفاته .., فماذكرته سابقا عن حقبة الخمسينات والستينات وماوقع فيها من تصفيات للزيتونيين والدساترة الأحرار واليوسفيين ورجال المقاومة الوطنية ..كان جزءا من فيض , وقد كان يسعني أن أواصل رحلة سرد سجل الرجل مع معارضيه في السبعينات والثمانينات .., لأروي للقارئ قصصا مروعة من العسف والاضطهاد ..., ولكنني اخترت التأمل والاستراحة قبيل استئناف رحلة الكتابة والبحث والنظر ... يكفي أن أقول للقارئ بأن أحد ضحايا بورقيبة هو أبرز قادة المقاومة في الخمسينات من القرن الماضي , اذ تمت تصفيته واعدامه في الستينات من نفس القرن بعد اتهامه بتزعم محاولة انقلابية , وأقصد بذلك الشهيد الراحل لزهر الشرايطي , الذي غابت جثته عن الوجود وبقيت سرا مجهولا الى يوم الناس هذا ... ترك لزهر الشرايطي وراءه سبعة أبناء في سن الطفولة , خمسة منهم من زوجته السويسرية , وقد عاد ابنه من سويسرا الى تونس بعد أن مزقه لغز مقتل أبيه ... بحث عن القبر واثاره بين تونس وقفصة , و رجع بخيبة أمل كبرى انتهت بانتحاره حين عاد مصدوما الى مقر اقامته السويسري... وحين اندلعت أحداث الاتحاد العام التونسي للشغل في جانفي من سنة 1978 , تعامل بورقيبة مع المتظاهرين وقادة الاتحاد العام التونسي للشغل بدموية وقساوة , فكان أن الت الأحداث إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى الذين غصت بهم المستشفيات، مع إلقاء القبض على قيادة الاتحاد بما في ذلك أمينة العام السيد "الحبيب عاشور" وإيداعهم السجن بل ومحاكمتهم. ووصل عدد الذين تعرضوا للمحاكمة أمام محاكم الحق العام إلى 700 من النقابيين، أما الذين حوكموا أمام محكمة أمن الدولة فيقدر عددهم ب 130 , ووصفت المحاكمات بالصورية وبأنها المسرحية. كما عرفت تلك الفترة على عهد بورقيبة سن قانون الخدمة المدنية الذي مكن السلطة من إنشاء المحتشدات الطلابية وإجبار الطلبة على العمل في المشاريع الصحراوية بصفة إجبارية. كما كان من نتائج الخميس الأسود القضاء على استقلالية الحركة النقابية التونسية وجعل الاتحاد مجرد أداة من أدوات الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم عبر تكوين مكتب تنفيذي جديد من طرف بعض النقابيين المنتمين للحزب الحاكم وإضفاء الشرعية على ذلك من خلال انعقاد مؤتمر خارق للعادة للاتحاد افتتحه الوزير الأول نفسه ولكنه كان يفتقد إلى أية مصداقية أو شرعية قاعدية ..*3 كانت معالجات بورقيبة لأحداث سنة 1978 , أمنية ودموية , واعتبرت السلطة السياسية قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء أحداث 26 جانفي 1978 "أشبه ما تكون بسفينة ظلت طريقها فغدت تتقاذفها أشد النزعات محافظة وتزمتا من ناحية واليسارية الممعنة في المغامرة من ناحية أخرى "و" أن كل تحركاتها وتصريحاتها تمثل أرضية للمؤامرة والتخريب"*4 أما في انتفاضة الخبز - جانفي 1984 -, فقد تعامل بورقيبة مع مواطنيه بدموية وقساوة خلدتها الأرقام فكان سقوط 143 قتيلا و400 جريح وايقاف مائة شخص *5. وقد وصفت افتتاحيات حزب بورقيبة الحاكم المنتفضين انذاك بأنهم "مجرمون في حق الشعب "و"بيادق تحركها عناصر تخاف من الديمقراطية"و"بأنها نفوس مريضة وحقودة. تفتقد إلى الشجاعة والرجولة" وهي "عصابات من السفلة واللصوص عملت على تدمير تونس بأسرها "وقد وصلت الأوصاف التي أطلقت على الشرائح المشاركة في أحداث جانفي 1984 إلى نعتهم بأنهم "أعداء الشعب المجرمين والوندال الجدد وجيوب الإرهاب والسلب والحرق التي أعدت خطة جهنمية للإطاحة بالجمهورية والديمقراطية " *6 ودون أن نخوض في تفاصيل أخرى تخص حفلات التعذيب والاعتقال والمحاكمات الصورية التي تعرض لها اليساريون والاسلاميون في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي , فان رصيد بورقيبة كان وبدون شك رصيدا سياسيا دمويا ملوثا بمصادرة الحريات وترسيخ شمولية الدولة وهيمنتها على الاعلام والقضاء والمؤسسات ... والخلاصة أن بورقيبة كان حاكما دمويا ب"قشابة" حداثية , أخفى وراءها تسلطه وقهره لتطلعات الشعب التونسي نحو العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان والحريات والقانون وقيم العدل... ألغى بورقيبة المؤسسات وحولها الى فلك يدور من حوله , وأورث الدولة أمراضه السلطانية , فتحول الحزب الحاكم الى حزب الخلود , والقضاء الى مسطرة غير دستورية تزج بالمخالفين في الرأي الى غياهب السجون أو تحملهم الى أعواد المشانق ... أورث مجتمعه والسلطة طبائع الاستبداد وقد كان يسعه لو أراد النسج على منوال مانديلا أو ثابو امبيكي أن يؤسس لتداول سلمي وتاريخي على السلطة , اذ كانت تونس مهيئة برصيدها الاصلاحي والثقافي والسياسي ومنذ خمسينات القرن الماضي الى مشروع ديمقراطي ريادي تتصدر به تقدما شمال افريقيا والمنطقة العربية على حد سواء ... ان تأخرنا اليوم على صعيد الحداثة السياسية واحترام حقوق المواطنة هو بلاشك تركة بورقيبية ثقيلة مازال شعب تونس ونخبتها يدفعان ضريبتها في الام يزاوجون فيها مع صمود "سيزيف"... حداثة الصور الجميلة وتوجيهات الرئيس ومجلة الأحوال الشخصية ولباقة الموقف السياسي الخارجي , أخفت وراءها عالما سريا من التعذيب والاضطهاد , وعددا كبيرا من الضحايا الذين أريقت دماؤهم تحت شعار الحفاظ على الوحدة الوطنية والالتحاق بالأمم المتقدمة ! كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 19 فبراير 2010 *كاتب واعلامي تونسي : [email protected] مصادر : -علية الصغير(عميرة) "صورة المعارض في الخطاب البورقيبي"، في السلطة وآليات الحكم في عصر بورقيبة في تونس والبلاد العربية مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات فيفري 2003 ص 159. +*3 + *4 دراسة د.سالم لبيض "الحركة النقابية في تونس : أزمة 1978 وموقف السلطة منها". *5- تقرير نشرته جريدة الرأي عدد 27 . *6