بقلم : علي الجوادي - على امتداد نصف قرن من الزمن استحوذ الحزب الدستوري بزعامة الرئيس الراحل بورقيبة بداية ووريثه تجمع القمع والاستبداد والكسب غيرالمشروع بقيادة الطاغية بن علي لاحقا على دواليب الدولة والإدارة، واستخدمت هذه الدكتاتوريات آليات الاضطهاد والسجون والإقصاء والنفي لكبح حرية التعبير والتنظيم وإسكات أصوات المعارضين والنقابيين والحقوقيين. وجندت فئة من النخبة الانتهازية للتنظيروالتشريع لدكتاتورية الطغاة وعهد لشريحة أخرى مهام التنصت والتجسس والتخبير ولكتلة ثالثة مهام التعذيب والتنكيل بكل ناقد ومعارض لنظام الاستبداد والفساد. وكان جزاؤهم التوسيم والتنصيب والمنح والترقيات والاستيلاء على مجمل الأصول الإنتاجية والإعلامية، فاستنزفوا موارد البلاد وقوضوا الاقتصاد وأنتجوا الفقروالبطالة والاختلال والرشاوى والإجرام. ولكن المناضلين الأوفياء لقضايا الحرية والديمقراطية والتغيير، وهم من إنتاج الاتحاد العام لطلبة تونس بدرجة أولى، ناضلوا وضحوا وصمدوا السنين الطوال أمام آليات القمع والتعذيب والتجويع من أجل تونس الديمقراطية والحرية؛ تونس الحداثة وتكافؤ الفرص. انخرطنا بداية في النضال النقابي الطلابي 1978 1984 في صفوف الهياكل النقابية المؤقتة«ه.ن.م» للاتحاد العام لطلبة تونس، مدرسة نضالية اهتمت بقضايا الحرية والتعددية والحداثة مع انطلاق معركة الدفاع عن استقلالية الاتحاد في منتصف ستينات القرن المنصرم على أيدي الطلبة اليساريين والقوميين من أجل وضع حد لاحتكارالمنظمة الطلابية من طرف سلطة القمع والاستبداد إلى أن فازوا بأغلبية نيابية في المؤتمر 18 للاتحاد حينها سارعت الحكومة للانقلاب على نتائج المؤتمر وتدخلت مليشيات النظام لتعطل سيرأشغاله وتنصب قيادة بمعزل عن إرادة الطلاب والمؤتمرين بقربة عام 1971، فجاء رد المؤتمرين سريعا وأعلنوا عدم الاعتراف بالعملية الانتخابية غير الشرعية وقاموا بحشد الطلاب على قاعدة التصدي للانقلاب، وتوج هذا الحراك العظيم بانعقاد تجمع طلابي في كلية الحقوق بتونس من أجل إتمام أشغال هذا المؤتمر. ولكن عصابات السلطة سرعان ما عاودها حنين التنكيل والاضطهاد مع شروع المؤتمرين في استكمال أشغال المؤتمروتدخل عسكر القمع والتدجين قصد إيقاف سيرأعمال المؤتمر لتندلع أعنف المواجهات بين الطلبة والسلطة في ملحمة فيفري 1972 والتي انتهت بغلق الكلية لمدة أسبوع وإيقاف معظم العناصر القيادية في الاتحاد؛ ومن هنا دخل اتحاد الطلبة في محطة من اللاقانونية وتشكلت لأول مرة الهياكل النقابية المؤقتة، لتنخرط في النضال الطلابي والوطني إلى حدود 1989 تاريخ إنجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة بموافقة نظام الطاغية بن علي.. وقادة الاتحاد العام التونسي للشغل وعلى رأسهم الزعيم الحبيب عاشور استقالوا بدورهم عن الحزب الحاكم مع بداية النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وبات الاتحاد في صراع مع السلطة لسنوات من أجل فرض استقلاليته عن نظام الحكم فكانت الهجمة العنيفة على النقابيين ودورالاتحاد يوم الخميس 26 01 1978، عشنا غليان الشارع التونسي بوسط العاصمة في ذاك الخميس الأسود وما نجم عنه من ضحايا قاربت الخمسمائة حسب بعض الروايات حين كنت طالبا بجامعة تونس ومقيما بالمبيت الجامعي ب«رأس الطابية»، شاركنا العمال والمهمشين والأحرارفي انتفاضات الحرية والكرامة والتغيير، نتمسك بالصدق وقيم الاعتدال والحرص على الثبات والمصداقية في القول والموقف معا، نلتزم ونقف في خندق من يشارك آمالنا في حاضرأفضل ومستقبل أكثر إشراقا، كنا ولا نزال من الرافضين لأية سباحة في ممرات قوى الاستعمارالجديد، استعمارلطالما عمل على إدماج السياسات الإنمائية العربية في منظومة السلب والنهب وكبت سياسات التحول والتقدم وانتقاص سيادة الشعوب الفقيرة. وكنا من المشاركين في احتجاج الشارع التونسي غداة اتفاقية الصلح المنفردة التي وقعها أنور السادات مع مناحين بغين في كامب دافيد عام 1978، تعبيرا عن غضبنا من سياسات واشنطن وشركائها الذين نصبوا إسرائيل أميرا بامتياز على المنطقة العربية وعملوا على إلحاق أكبر مقدار من الإهانة والإذلال بالشعوب العربية وجعلنا عبيدا في خدمة المشروع الإمبريالي الصهيوني، واستنكارا لسياسات الحكام العرب المستبدين الخانعين، وكم هم يأتمرون بأوامرآل بوش وينفذون مجمل تعليماتهم دون قيد وتردد! عشية تغيير وجهة دراستي إلى كلية الاقتصاد بجامعة سترازبورغ واحد ومعهد الدراسات السياسية بجامعة سترازبورغ ثلاثة. حين عدت إلى تونس أواخر 1984 توسع نشاطي النقابي والحقوقي بداية بالتعرف المباشرعلى السيدين هشام قربيع «رحمه الله» وخميس الشماري الذي قدّمني إلى المرحوم محمد الشرفي وهوالذي قدمني إلى السيد سعدون الزمرلي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان خلال الاجتماعات الدورية للهيئة المديرة بقاعة المهندسين بتونس العاصمة ومن ثم تم التعرف على بقية أعضاء الهيئة... وتمطط نشاطي النقابي في سوق الشغل تزامنا مع هجمة السلطة على الهياكل الشرعية للاتحاد العام التونسي للشغل في منتصف ثمانينات القرن الماضي، فحضرنا إلى جانب النقابيين الشرعيين للاتحاد علي بن رمضان وكمال سعد والسحباني والحبيب قيزة والصحراوي«سوسة»والسعيدي«باجة»... محاكمات الرموزالنقابية والمناضلين تعبيرا عن تمسكنا بالشرعية ودعما لاستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل الذي انخرط فيه والدنا رحمه الله ضمن نقابته المنجمية حين كان يعمل بمنجم الحديد فيما بين خمسينات ومنتصف سبعينات القرن الماضي، منجم ابتلع مع أوائل سبعينات القرن المنصرم أحد أهالينا، نتيجة إهمال وتقصير من النظام المستبد في ظروف عمل عمال المناجم، وترك الصغار بدون عيال تتقاذفهم أمواج الفقروالجهل والمرض إلى يومنا هذا. ليست لي انتماءات حزبية إلى حد الساعة ولم أتحمل أي مسؤولية تنظيمية إلا في اتحاد الطلبة واتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان، ولكنني ناضلت وأواصل النضال الفكري والسياسي بصفتي الشخصية مع مكونات المجتمع المدني، أتعامل مع الجماهير كما أتعامل مع النخب والقيادات ولا أؤمن كثيرا بالزعامات، فوقنا الله والوطن وقيم الأخلاق ومعنا ثوابت النضال والاعتدال والتسامح والانفتاح وننبذ المزايدات والانغلاق. اجتمعنا أيام الأزمات ومسلسلات القمع في عهدي دكتاتورية بورقيبة واستبداد الطاغية بن علي في الليل مع عديد النقابين والحقوقيين والمناضلين بعيدا عن أعين «لجان اليقظة» التابعة للمزالي ومليشيات الصياح وعصابات التجمع... حضرنا ما أمكن محاكمات النقابيين والمعارضين والحقوقيين وشاركنا في لجان مساندة المناضلين وعملنا في قضايا حقوق الإنسان والحرية ومواجهة الاستبداد والإقصاء أيام حكم الطاغية بن علي وعصابته الفاسدة مع عديد الوجوه النقابية والحقوقية والسياسية وأذكرعلى سبيل المثال ولا الحصر جلول عزونة وعلي بن رمضان وصالح الحمزاوي وحمه الهمامي وزياد الهاني وسهام بن سدرين وخميس الشماري والدكتورمصطفي بن جعفر والمرحوم محمد حرمل والأساتذة راضية النصراوي والبشير الصيد وسعيدة العكرمي ومحمد صالح التومي واحمد نجيب ألشابي وثابت قويدرونسقنا مع الدكتور المنصف المرزوقي أيام توليه رئاسة رابطة حقوق الإنسان واجتمعنا حتى في سيارتي بجهة البلفدير عند استهداف الرابطة من طرف عصابات الطاغية بن علي...كل واحد ساهم حسب طاقته الفكرية والبدنية وظروفه المعيشية والأسرية وكل ناضل بمقدارقوة إيمانه بقيم الديمقراطية والحرية وحتمية التغيير والتحول. سلطت علينا المراقبة اللصيقة في المنزل وأينما تحركنا من طرف البوليس السياسي منذ أزمة الاتحاد في العام 1985 وإلى غاية هروب المخلوع ولاحقنا هذا البوليس حتى في لقاءاتنا غيرالسرية بمقاهي تونس العاصمة مع الأستاذ نورالدين البحيري وبجهة المنارمع الأستاذ البشير الصيد... وتعرضنا للترهيب والإرهاب النفسي وصل إلى نقطة تجميد أجوري عند حد رتبة مديرمساعد بالبنك لمدة عشر سنوات وحرماني من حقي في الترقية حتى هروب المخلوع، وكم من سنين تعرضنا لعديد الضغوط والمغريات المشروطة مع استخدام أساليب التضليل والابتزاز، إما الانخراط في الشعب المهنية والتوقف عن الكتابة في قضايا التنمية العادلة والأزمات وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد أو التهميش والتنكيل! لسنا ولم ندع يوما أننا الثوري الكوبي تشي غيفارا أو الزعيم العربي عبد الناصرأو المرشد الأسبق للإخوان المسلمين سيد قطب، ومع هذا لم نرضخ ولم نرفع الراية البيضاء أمام آلة الضغط والابتزاز والتهديد، أبينا إلا أن نواصل مسيرتنا كما بدأناها نحمل الأهداف نفسها وندافع عن القضايا نفسها بكل عزيمة وثبات دون أن نغير مواقفنا، لا لأننا نهوى السكون ونرفض التغيير، وإنما بوصلتنا دوما حرية التعبيروالتنظيم وترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية والتعددية والشفافية وخضوع الجميع لحكم الدستور والقانون والمساءلة ونصرة قضايا أمتنا العربية في التقدم والازدهاروالحداثة ومقاومة سياسات التبعية والإذلال والاستيطان. كاتب صحفي في قضايا التنمية والازمات والفساد