: زرت السودان مطلع التسعينات من القرن الماضي , وقد تطلعت يومذاك الى مواصلة دراسة عليا بجامعة الخرطوم العريقة أو بجامعة أم درمان أحد أعرق الجامعات السودانية, الا أن ضيقي ذرعا بتقلص بعض مناخات الحرية دفعني بعيد أشهر قليلة الى مغادرة البلد بكثير من الالام والدموع ووداع رسمته بالبكاء على فراق أهل بلد قاوموا فقرهم وظروفهم المناخية الحارة بكثير من الجلد والصبر... ضقت ذرعا يومذاك بالعنصر التونسي أكثر من ضيقي من أجهزة البلد الرسمية , التي عاملتني كتونسي حامل لقناعات التوسط والاعتدال في الفكر والسياسة بكثير من الاحترام والحيادية , وقد لقيت من أهل هذا البلد العربي والاسلامي والافريقي الكثير من الترحاب والاكرام حتى عادت بي الذاكرة الى كرم حاتم الطائي... الشعب السوداني كان يومذاك شعبا يعيش خارج هموم وانضباطات ضغط الحضارة الحديثة , فقد كان الجميع ولايزال يشرب الشاي والقهوة ويأكل التسالي أي المكسرات في وقت يمتد لساعة أو ساعتي مسامرة على قارعة الطريق , التي تملؤها النسوة بمجالس شبه عائلية لم أر لها مثيلا في أي بلد عربي اخر... يذهب الكثيرون الى أعمالهم متأخرين بساعة أو ساعتين وأحيانا أكثر ! , ولاحرج لدى المجتمع والدولة في ذلك...! , فالساعة الافريقية تسير متأخرة فيما يشبه التقليد السوداني الثابت.. الساحة السودانية كانت يومذاك تعيش على وقع اعتلاء الاسلاميين لأعلى هرم السلطة , فلاخلافات معلنة يومذاك بين الرئيس عمر البشير وبين منظر التجربة الاسلامية الحداثية الزعيم حسن الترابي.., بل انضباط ووفاء وحديث عن الرجلين داخل أروقة الدولة بكثير من الاحترام.., بل ان جهوزية أبناء التيار الاسلامي وحبهم للزعيمين كانت تدفعهما ضمن رؤية أخلاقية مليئة بروح التضحية الى التطوع للقتال في الجنوب دفاعا عما يرتؤونه حياض الوطن والهوية ... كان البعض من السودانيين يبكي يومها الم يقع الاختيار عليه من أجل سد مهمات الدفاع والقيام عليها ضمن رؤية اعلامية شهيرة حملت يومذاك تسمية "في ساحات الفداء" , وهو برنامج تلفزي أثار حمية الشعب وطلائع الحزب الحاكم من منتظمي المؤتمر الشعبي أو الجبهة القومية الاسلامية سابقا... كان الكثيرون يتحدثون يومها عن فدائية وتواضع وألمعية رجل غيبته الأقدار حين سقطت به طائرته العمودية لاحقا , وهو عضو مجلس قيادة ثورة الانقاذ الفريق الزبير - رحمه الله -... كان هذا الرجل يوازي في شعبيته وحب الناس له شعبية البشير , بل ان الجميع يؤكد على أن الأخير لم تغيره الدولة واغراءات الحكم حين حافظ على نفس سكناه وتقاليده المتواضعة في الحياة. وفي مقابل ذلك كان الخلاف يومها عميقا مع حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي الوحدوي الذان كانا يعتقدان بأن الترابي قد تخلى عن طروحات الديمقراطية و"غدر" بهما في انقلاب عسكري جاء بالبشير الى هرم السلطة سنة 1989 .., في حين كان أنصار التجربة الاسلامية السودانية يتحدثون عن عملية انقاذ وطنية أكثر من ضرورية في ظل تقدم قوات قرنق باتجاه تخوم العاصمة , وفي ظل تهاوي وتداعي الكثير من كتائب ومكونات القوات المسلحة السودانية... لزمت الحياد في صراع كل هذه الأطراف السودانية وقد عبرت أحيانا وبصوت مسموع عن أهمية الديمقراطية واحترام الدستور والقوانين الأساسية في مادة الحريات , حتى وصلتني بعض التنبيهات أو لنقل التحذيرات المؤدبة من بعض الطلبة التونسيين القريبين من التجربة... وقد انتهيت بعد صراع مع الذات الى قرار بمغادرة السودان والبحث عن بلد اخر تتسع فيه المناخات الى جرأة أعلى في الحديث عن الحرية من منظور وطني واسلامي وانساني أكثر أريحية... ورغم ذلك فانني لازلت أذكر بأن البشير والم نتشرف بمقابلته برغم وعود بذلك , قد قابل التونسيين بمضيافية لم تكن غريبة عن أهل بلد أحبوا تونس وشعبها وحفظوا عن ظهر قلب كثيرا من قصائد أبي القاسم الشابي...! السودان يومذاك كان بلدا فقير الامكانات , ولكن أيضا عظيم الارادة , وقد باءت عليه السماء ورحمة الله بثروة باطنية عظيمة احتارت الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال في استخراجها وتوظيفها في الدورة الاقتصادية للدولة... مايجمع عليه السودانيون برغم خلافاتهم هو أن الفريق أو المشير عمر البشير استطاع في تحدي غير مسبوق مد الطرقات والكباري -أي الجسور- وتطوير شبكة الاتصال والمواصلات وجلب الشركات الصينية والماليزية والفرنسية وغيرها الى البلاد من أجل استخراج جزء بسيط من هذه الثروة العملاقة , ومن ثمة توظيفها في تنمية موارد البلاد المحدودة سابقا... نجح في التحدي وبدأ النفط وغيره من الثروات في التدفق من أجل الاعمار والبناء , وهو ماأثار حفيظة بعض القوى الدولية التي لم تأخذ نصيبها من الكعكة الاقتصادية , ومن ثمة انعكس الأمر على البلد تحريضا اقليميا وداخليا في الجنوب والغرب , وهو ماجعل حكم البلد عملية محفوفة بالألغام في أكثر من محور جغرافي وسياسي... تخاصم السودانيون واحتكموا في النزاع السياسي والاقتصادي الى السلاح , وهو ماأفرز في ظل امتداد جغرافي واسع وعظيم الى تعقيدات سياسية ومادية ليست بالهينة ..., ورغم ذلك فقد استطاع أنصار عمر البشير وعثمان طه وغازي صلاح الدين ادارة دفة السفينة ومواصلة قيادتها برغم انشقاق د.حسن الترابي... اليوم وبعد مضي أكثر من عقد ونصف على زيارتي للبلد , نهض السودان بسرعة مذهلة في العاصمة الخرطوم وبعض المدن الكبرى , وعاد الرفاه أحيانا علامة مميزة لطبقات الحكم والنخب المتعلمة , بل ان السيولة النقدية أتاحت للبلد مساحات كبرى للمناورة الداخلية والخارجية على الصعيد السياسي , في حين بدأ البعض من المعارضين بالحديث عن بعض مظاهر الفساد المالي ... المعارضة السودانية اقتنعت بأحزابها الكبرى الرئيسة الأمة والديمقراطي الاتحادي بجدوى المشاركة السياسية والمنازلة الانتخابية , بعد أن اقتربت يوما ما من أسمرة والقاهرة أيام كانت هذه العواصم جبهات مفتوحة على خلفيات صراع حلايب وقضايا دعم معارضتي هذين البلدين..., وقد استطاعت الحكومة التحاور والتعايش مع هذين الحزبين في ظل عودتهما الى قواعد السلم المدني وتعهد الدولة باقتسام الثروة والسلطة... وبالمقابل تفجر صراع دارفور بتحريض خارجي على خلفية البحث عما سمي بالعدل والمساواة , وقد انتهى الصراع الى توفيق الاتفاق الاطاري بالعاصمة الدوحة ووعد قطري جد محمود باستثمار مليار دولار في قضايا اعمار الاقليم... اليوم تعيش البلاد على وقع انتخابات رئاسية وبرلمانية وجهوية , والكل ينشط في كنف الوضوح والعلنية ويستثمر تحولا سياسيا سريعا باتجاه الانفتاح في ظل اطمئنان البشير لما أنجزه اقتصاديا واستثماريا وحتى سياسيا برغم كل مايمكن أن يقال عن تجارب عسكرية المنشأ..., فالسودانيون يميلون الى التصويت في كثير من أقاليم البلاد الى رجل الثورة الأول في ظل حديثه المتسم بالشهامة والشجاعة في قضايا الأمة في زمن التراجع العربي.., بل ان الكثيرين يقولون بأن تجربة الانقاذ أنجزت اقتصاديا واستثماريا وتقنيا مالم تنجزه الحكومات العسكرية والمدنية السابقة... وبرغم احتراز البعض الم نقل شرائح معتبرة على رصيد السودان في ملف الحريات السياسية , الا أن الكثيرين يقولون بأن التجربة تشهد تطورا سريعا وانفتاحا مضطردا وحوارات وطنية وداخلية مفتوحة وهو ماسيرسخ حتميا تطور النظام باتجاه حالة ديمقراطية باتت وشيكة وواقعية ... وفي كل الحالات يمكن القول بأن خصوم الأمس وحتى حملة السلاح سابقا أصبحوا اليوم تحت قبة برلمانية واحدة , وبات قادة معارضون بارزون سابقون يشغلون مناصب عليا بالدولة ومنها النائب الثاني للرئيس ... ويبقى السؤال مطروحا برغم مايقال وماقيل عن قدرة السودان على مغالبة المحاور الدولية الغاضبة من مواقفه المساندة لقضايا التحرر الوطني وقضية فلسطين , وعن قدرته على ضمان اليات انتقال السلطة بشكل سلمي بعد تنحي مستقبلي للفريق البشير عن هرم السلطة...وعن قدرته على تعميم التنمية على مساحة شاسعة أشبه بالقارة وعن قدرته على الحفاظ على وحدته الترابية في ظل حديث واسع عن استفتاء سنة 2011 بشأن تقرير مصير الجنوب... أسئلة لايملك السودان وحده الاجابة عنها , بل ان أطرافا خارجية ولاعبون اقليميون ودوليون سيتدخلون لضبط عقارب الساعة فيها...