في حمأة الصراع تطوى الصفحات سريعا وتُنسي أخبار اليوم مآسي الأمس القريب. تشرئبّ الرقاب بداهة إلى جنوب لبنان لتحجب صور الجثث والدمار هناك أشلاء الضحايا من المدنيين العزل على أرض فلسطين. سنّة اللّه في خلقه حيث يتطلّع النّاس دوما إلى الجديد معانقين الأمل في بشارة خير بمستقبل أفضل ينسيهم كالح الأيام. لسنا في تونس نشازا من خلق اللّه، ولا شواذّا عن طبائع الأشياء فكلنا توق إلى جديد الأحداث علّها تسكّن فينا أوجاع الواقع الأليم أو تشحذ عزائمنا بانتصارات معنويّة، ولو رمزية، تعطي لتضحياتنا تجسّدا ومعنى. في خضمّ هذه اللّجج المتدفّقة علينا كالحمم، عبر الفضائيّات العربيّة والغربيّة، نغفل عن "ضحايا" هم في الحقيقة محرّكو الأحداث وصنّاع البطولات. هؤلاء هم اليوم في بلادنا ثلّة من أبطال رفضوا كابوس الاستبداد وعانقوا حلم التّحرّر فلحقتهم لعنة الحجّاج وخانتهم ذاكرة رفاق الدّرب وربّما جافاهم بعض ذوي القربى. ثلّة من رجال تونس ونسائها يقبع كثير منهم في أقبية العهد الجديد يتلظّون بنار الموت البطيء ويتيه آخرون منهم في شوارع مدن القحط وقد غشّى وجوههم يأس من وطن بلا قهر وشعب يكسر القيود. نسيان هؤلاء أقسى عليهم من الموت ومن كل أنواع الشقاء الّذي يتجرّعونه سجنا هناك وبؤسا هنا. نسيانهم هو تجويف لجهودهم وجودهم من كلّ قيمة ومعنى. المعنى الوحيد الّذي يتبقّى لهم هو كونهم ذواتا بشريّة قادها حظّها التّعيس إلى مثل هذا المصير البئيس وأنّهم سيكافؤون على صبرهم جنّة ونعيما. نسيانهم هو امتداد لظلمة النّفق وتأبيد للظّلم والمعاناة والألم، فلا شيء يقلق الحلاّج ما دامت الرّعيّة راضية مرضيّة تستمتع بنسائم اللّيالي الصّيفيّة العليلة وتهزّ أردافها على أنغام المطربة ماريا. نسيانهم إذن جريمة لا تغتفر لأنّه خيانة لميثاق غليظ عنوانه النّصرة والإجارة في زمن رديء عزّ فيه النّصير وساد القوم الحقير من الحمير. هؤلاء المنسيّون هم نجوم السّماء وشموع الوطن في دياجير الظّلام، إنّهم سلطان الوشم على جسد البدائيّ الرّافض للدّولة (بيار كلاستر، المجتمع ضدّ الدّولة، بالفرنسية). ليست هذه الكلمة وفيّة لحقّهم في الذّكرى والسّموّ وإنّما هي خيانة مباحة وأنانيّة شريفة تنشد راحة النفس من تأنيب الضمير. همسة في الختام، عذرا إن نحن نسيناكم ردحا من الزّمن، وعذرنا البكاء على الأهل في لبنان وفلسطين، فلذكركم جولات وللحق صولات والفضل لكم بعد اللّه في السّماوات إن أذن لفجر الحرّيّة أن ينبلج يوما في ربوعنا وتنتهي المأساة.