: بين أروقة تونس الحقيقية قادني الفضاء الافتراضي بعد زيارتي الأخيرة لتراب الوطن الى لقاء من انقطع بهم الوصل بعد عشرين سنة ! ... كان بعض زعماء المعارضة قبل سنوات من اندلاع الثورة , يترفع مقاما عن مخاطبة أبناء الوطن عبر الفضاء الفايسبوكي أو عبر صفحات الواب ! , فهؤلاء كانوا يقولون بأنهم قد ملوا الافتراضي ! , أو أنهم انصرفوا الى احتكار الفضائيات , فجعلوها جسرا حصريا لايمر أحد عليه الا بموافقتهم أو بموافقة من زكاهم وأفسح لعظمتهم في السياسة والفكر ... لم يعرف الشعب التونسي أيام الديكتاتور المخلوع الا وجوها سياسية محدودة , حرصت على اقصاء العشرات بل المئات من طاقات تونس في اطار تنافس ضيق وأناني على تصدر الواجهة الاعلامية ... كان بن علي يحتكر قناة تونس 7 ومشتقاتها البصرية والسمعية والمكتوبة , وبالمقابل كان آخرون يتحركون وراء كواليس اعلامية موازية من أجل بسط النفوذ في عملية تشكيل الرأي العام وفق قسمة تقليدية ... هكذا كان المشهد الاعلامي الفضائي التونسي ملغوما بأحزاب وجماعات نفوذ ولوبيات , وبينهما آمن الشباب بشق طريق ثالث , وقد كان الفايسبوك والمواقع الالكترونية صوت من لامنبر له في الوصول الى الشرائح المجتمعية المقصاة ... حين كان الاعلام الفضائي الرسمي يمارس أبشع فنون الاقصاء , كان آخرون يكرسون الاقصاء الفضائي بطريقة متجلببة بالديمقراطية , ولم يلبث الوضع على تلكم الحال حتى انبعث طائر العنقاء من تحت الرماد ...! , فكانت الثورة , ثورة الشباب وثورة الواب وثورة الفايسبوك وثورة الهواتف المحمولة , وثورة الاعلام البديل الذي كان طريق الفضائيات ووسائل الاعلام الدولية ووكالات الأنباء وحتى المخابرات الغربية في معرفة حقيقة مجريات الأمور تونسيا ... أذكر في الأسابيع الأخيرة , التي سبقت تاريخ 14 جانفي 2011 , أنني كنت والى ساعات متأخرة من الليل , أسهر مع شباب حقيقي وأسماء افتراضية من أجل التخطيط لتوسيع دائرة التحركات الاحتجاجية على طول وعرض البلاد , وقد كنت وللأمانة لاأنام أحيانا الا 3 أو 4 ساعات , حتى تلقيت عتابا حقيقيا من رفيقة الدرب على مارأته اخلالا حقيقا بحقوق النفس والأهل ... كان ردي متكررا بأن المعركة فاصلة مع ديكتاتور تونس المخلوع , فاما أن نسلك بعد أيام أو أسابيع , طريق النجاة والكرامة والحرية , أو أن تشتد المحنة ببلدنا وشعبنا , ويدخل بن علي في طور الانتقام الجماعي لاقدر الله ..., وقد تحسبت في صورة الفشل الى ملاحقة الطاغية لي بوسائل تسييس القضاء وضم اسمي الى لائحة المطلوبين بوسائط خارجية ... نصرنا بفضل الله على بن علي بالرعب مسيرة شهر ! , وخرج التونسيون والتونسيات بقناعة راسخة بأهمية انتظامهم الاجتماعي والعنكبوتي في ثورة الكترونية ... انتقل شباب تونس من الافتراضي الى الواقعي في ثورة عظيمة , وبقي بعض المعارضين التقليديين أسيري احتكاراتهم على الشاشات والاذاعات والصحف , وبات من السهل في مشهد جديد اعادة تشكيل الوعي بوسائط بديلة وغير مكلفة ... كان بن علي يتباهى ويتفاخر بتطويره لشبكة الانترنيت وبنية شبكة الاتصالات الأرضية والفضائية والرقمية , حتى فوجئ ساعة رحيله بفشل كل سياسات القرصنة والحجب زمن ثورة الاتصالات وانفجار المعلومات ...! أنفق أموالا طائلة على المهندسين القراصنة وشرطة السنسرة , ثم كانت عليه حسرة حين تحول الافتراضي الى تمرد شعبي واجهه بقناصة الرصاص كبديل عن القراصنة ! , ثم مالبث أن أدرك كأسرع حاكم عربي "فهمها" ! , بأن لعبة الحكم والكذب والتعذيب واللصوصية ينتهي أجلها محتوما بعد 23 سنة ... نعم , هو الافتراضي الذي لم يفهمه الحكام العرب ! , حين أبدع تنظيمات شكلت أكبر الأحزاب وأضخم الجمعيات التي فاقت في شعبيتها الكاسحة , عمالقة الأندية الرياضية العربية ... من الافتراضي عدت الى أحضان شعبي شخصيا , بعد أن جربت مسيرة الأحزاب السياسية والنضال الميداني الطلابي والعمل النقابي وفضاءات دور الثقافة والعمل الشبابي ولقاءات الأحياء , ولكن حين كانت العودة العنكبوتية والافتراضية سنة 1998 محتشمة لدى أغلب أبناء وطني , لم أفقد الأمل في أن يصبح المحتشم وسيلة جماهيرية , فجعلت من تلكم السنة تاريخي الالكتروني , وعانيت مرارة الحصار والتضييق والتشويه أحيانا ليست بالقليلة ..., ولكنني عدت الى قلب الوطن من أذينات ضخ المنفى لدماء ارادة الحياة ! لم يواجهنا اعلام بن علي بابا , باعلام وطني حر ونزيه , ولكنه أعمل فينا سيف أقلام صفراء وأبواق دمنة , كان أشهرها قلم قذر يعزف سنفونيته العفنة عبد العزيز الجريدي , فهذا الأخير اتخذ مع آخرين من صحيفة "كل الناس" و"الحدث" وصحيفة "الاعلان" سابقا ..., جسرهم للقذف والفحشاء والمنكر , حتى وصل الأمر بالجريدي نهاية شهر سبتمبر 2010 , الى كتابة في عرضي تهتز منها عروش الفضيلة والأخلاق ... لن أنس رداءة وسقط متاع زنود مخبري بن علي , ونشريتهم القذرة "بالمكشوف" , التي كانت هي الأخرى أسوء ماجادت به صحافة الرذيلة لحاكم تونس المخلوع , فقد استهدفتني نهاية سنة 2010 بمقالات فاحشة ساقطة بذيئة ورذيلة من طينة أصحابها ..., ولقد شاءت قدرة الله أن ينقلب السحر على الساحر , فيدفع بن علي وعصابته ضريبة حبرهم الفاجر بعد أشهر قليلة من جريمة نكراء ... حمل الافتراضي الى العالم ثورة شعب ومنطقة , حتى تحدث وزير خارجية ألمانيا "فاستر فاله" قبل يومين فقط عن حدث عظيم يهز العالم , لايقل أهمية عن حدث سقوط جدار برلين وماأحدثه من توابع زلزالية هزت خارطة أوروبا الشرقية وحتى الخارطة الدولية .... هذا هو الافتراضي الذي آمنت به , فحملني الى لقاء خيرة الأصحاب في الميدان بعد عقدين من المنفى !..., وهذا هو الافتراضي الذي كفر به سحرة بن علي وزعيمهم , فحملهم الى المنافي وأروقة العدالة بعد نفس الفترة ...!!! ولازلت أتجول في سحر الافتراضي في ربوع تونس بعد التاسع عشر من فبراير2011 , تاريخ زيارتي الأخيرة للوطن , حتى أيقنت بمقتضيات العدالة , حين تجول شروطها مختصرة في مقولة : من كان له الغنم فعليه بالغرم ! ... لقد دفع شعبنا ضريبة حريته وكرامته وعزته مغارم كثيرة ..., وآن له اليوم أن يستمتع بمغانم ثورة لم يصدقها البعض حتى بعد سقوط كبير أصنام تونس والقاء القبض على هامان وكبار مستشاري العصابة الفرعونية ...! ومازلت أجول بقصور الحمامات ومنازل الذين ظلموا بتاريخ 3 مارس 2011 , ومازلت أنظر في حدائق وعيون وقصور مطلة على شواطئ بديعة من اعجاز الخالق ..., حتى نظرت الى أقفاص الأسود وأقفاص حيوانات أخرى مفترسة , كانت تؤثث مشهد حدائق العوائل الحاكمة , وأيقنت بأن مغارم هؤلاء هي من جنس صنيعهم بالكائنات البرية ..., فقد حاكوا قصص حيوانات كليلة ودمنة وانتهى بهم الحال الى مخلوقات ضعيفة تطارد اليوم في البرية ... يتبع في حلقة قادمة بمشيئة الله