: خطوة سليمة وثمينة جدا اتخذتها وزارة الداخلية التونسية يوم أمس الخميس 31 مارس 2011 , اذ تم الاعلان عن السماح بقبول تسليم بطاقات هوية وطنية للمواطنات المتحجبات ..., وهو مايعني عمليا تنقيح المرسوم الذي يضبط "المواصفات المادية والفنية للصورة المضمنة ببطاقة التعريف الوطنية" من خلال "الاقتصار ضمن الفصل 6 منه على إظهار الوجه والعينين في الصورة"، و"قبول صور المحجبات ببطاقة التعريف ". وزارة الداخلية التونسية تبدو في قرارها المعتبر وكما جاء في توضيحها مكرسة لمبادئ وقيم الثورة المجيدة، وضامنة للاحترام الفعلي للحريات العامة والفردية". أمام هذا الموقف التاريخي وجب التوجه بالشكر لمن وقف بشجاعة أخلاقية وسياسية وراء هذا القرار , وهو ماسيسجل في الرصيد الايجابي للسيد الحبيب الصيد بصفته وزير داخلية تونس الجديد ..., بعد أن احترز البعض على تعيينه بناء على توليه لمهمات سابقة بنفس الوزارة على عهد ديكتاتور تونس المخلوع . موقف شجاع وحكيم لايمكن عزله أيضا عن المناخ الجديد الذي تعيشه تونس مابعد الثورة , وهو مايعني أن اتخاذ القرار تم في ظل توافق حكومي منسجم تمام الانسجام مع مكاسب الحرية والكرامة ,التان انتصرت لهما ثورة تونس العظيمة ... أقدر جيدا أهمية هذا القرار لشريحة نسوية وشعبية واسعة في تونس , وأعتبر اتخاذه تصحيحا راقيا لعلاقة مؤسسات وزارة الداخلية بالمواطن , بل انني أرى فيه انتصارا لنضالات وعذابات استمرت طيلة 30 عاما ..., اذ لازلنا نتذكر جميعا اصدار المنشور البورقيبي سيء الذكر 108 ... ففي سنة 1981 انطلقت قصة عذاب المحجبات التونسيات حين أسست الدولة لعلاقة صدامية مع بعض رموز الهوية من خلال محاكاة عمياء لما حدث في تركيا ..., فكان سن المنشور 108 علامة أخرى على سوء الفهم بين الدولة والمجتمع , بل مؤشرا حقيقيا على تغول الدولة التونسية وتدخلها في تفاصيل الحياة الشخصية . قطعت تركيا مع اللائكية المتعسفة منذ سنوات , وانتصرت ارادة الجماهير لخيار الحرية والديمقراطية والهوية , وعادت لتنسجم من جديد مع الذات والحضارة والتاريخ , فكانت مسيرة غول وأردوغان وتيار العدالة والتنمية صفحة مشرقة في الانتصار التركي للهوية والحريات ... تأخرت تونس كثيرا في مقاومة ملاحق وأصول الاستبداد , غير أن ثورة الرابع عشر من جانفي أعادت البلاد ومن بعيد الى سكة الحرية والتحرر والانعتاق , لتتلاحق القرارات المصوبة لانحرافات الدولة الشمولية . مثل هذا القرار سيساهم بلاشك في تحسين صورة أهم وزارة سيادية تونسية , اذ كثيرا ماتغبش مخيال ذكرها قبل الثورة بصور التعذيب وجرائمه على عهد الرئيس المخلوع بن علي , بل قد يذهب البعض الى القول بأن صورتها السيئة بدأت أيام حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة حين تم اعتماد التعذيب والمحاكمات السياسية كآلية رسمية لفض الخصومات واجهاض مقدمات الحمل الديمقراطي ... الثورة وكما ذكرت في مرات عدة على شاشة لندن المستقلة , تجب ماقبلها , اذ أعتقد جازما بأن في استطاعة الوزارة أن تستعيد مكانتها بين الجماهير من خلال خدمتهم وحفظ ممتلكاتهم ومصالحهم , والتواصل معهم بكل ماأتاحه العصر من أدوات حضارية بعيدة عن التهديد والوعيد أو استخدام العنف كآلية فاسدة لفض النزاعات ... وزارة الداخلية تستطيع اليوم أن تتطهر من العهود السابقة وعناصرها الفاسدة , من خلال المضي في هذا الاتجاه التاريخي الجديد , وهو مايعني التحامها الفعلي مع تطلعات الشارع التونسي , عبر بسط العدل والأمن الحقيقي ووضع اليد على عتاة المجرمين وأكابرهم , بدل الانشغالات السابقة بالتدخل المباشر في ضبط الايقاع السياسي من خلال الانتصار لارادة الديكتاتور .. انه عصر جديد تدشنه الوزارة , وآمل أن تتعزز خياراتها بالانتصار لتونس وشعبها عبر تكريس الشفافية والعدل وحماية الحريات الخاصة والعامة , وعبر القطع مع حالة الانفلات الأمني التي عرفتها تونس أسابيع متواصلة بعد فرار وسقوط صنم بن علي . مهام وطنية عظيمة وجليلة تنتظر الوزارة , وأحسب أن بامكانها أن تعود للتاريخ من أبوابه العظيمة ... قد تختبر الوزارة باعتصام هنا وهناك , أو مسيرة شعبية عارمة أو بتظاهرة جماهيرية حاشدة , وعليها أن تتفهم قواعد اللعبة الديمقراطية في مناخ الحرية , فتونس زمن الثورة , ليست تونس زمن بورقيبة أو بن علي ..., انه عصر جديد تتأسس فيه العلاقة بين الدولة والشعب على القبول والتعايش المشترك , بل بالأحرى على عقد اجتماعي قوامه الاعتراف بالحقوق والواجبات ... على الجميع أن يعيد تأسيس قواعد فهمه للوطن وحقوق المواطنة , وأحسب أن التحدي سيواجهنا جميعا بالتخلي عن العنف كوسيلة في الوصول الى السلطة أو المشاركة فيها أو الحفاظ عليها , أو تحقيق الغايات بأساليب القوة وأدوات الاكراه ... كلنا في خدمة هذا الوطن العزيز , ورجال الأمن يقفون اليوم على ثغرة عظيمة , ولن يسدها الا تفانيهم في خدمة الصالح العام وتأمين صورة الوطن الحر في الداخل والخارج ... صورة نتحمل مسؤوليتها جميعا , وقد يكون تحقيق مناطها مشروطا بالقطع مع الماضي الأليم والتطلع المستمر الى التكفير الجماعي عن أخطاء الماضي . فلنتعاون جميعا , ولنتكاتف جميعا من أجل تحقيق صورة وطن جميل وآمن وحر ...