منذ أربعين عاما بالضبط و فجر يوم 28 أغسطس 1966 تم تنفيذ حكم الاعدام في الشيخ الامام المفكر سيد قطب صاحب في ظلال القران، و في الثالث من سبتمبر 1966 أي في نفس ذلك الأسبوع الرهيب كتبت مقالة في صحيفة العمل التونسية ما أزال أحتفظ بها الى اليوم لاعلان القطيعة مع الناصرية و رثاء ذلك العالم الجليل الشهيد، و كنت في العشرين من عمري كأغلب أبناء جيلي، نعيش على احترام الزعيم الكبير جمال عبد الناصر و نتفاعل مع حماسه القومي و نرى فيه عودة الكبرياء للشعب العربي و نعترف له بالجرأة في تأميم القنال و تحدي الامبريالية الفرنسية في الجزائر و مقارعة الهيمنة الأمريكية و البريطانية، بل كنا نردد في الخفاء و في غفلة من خصمه الزعيم التونسي بورقيبة نشيد الشاعر القومي سليمان العيسى: من المحيط الهادر الى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر، و نستمع خفية كذلك الى اذاعة صوت العرب نسترد بها في مغربنا العربي روح الارادة والصمود عندما كان معتمد مدينة القيروان ( أي مساعد المحافظ) هو المثقف المتميز أصيل بلدة القلعة الشاب الزيتوني انذاك المختار بلعيد يدعونا الى بيته و يحرك ابرة جهاز الراديو القوي القديم ليلتقط صوت العرب. و لا نبالغ اذا قلنا بأن عبد النصر كان بطلنا و أملنا و قرة عيوننا. الا أن الغريب حين نراه اليوم مع البعد الزمني هو أننا أيضا كنا مشحونين بثقافة اسلامية زيتونية تقليدية ترسخت في وجداننا من لوحة الكتاتيب و حلقات الجامع الأعظم حين كنا نخصص أيام الاثنين للتحلق حول الشيوخ عبد الرحمن خليف و يوسف بن عبد العفو و صالح البحري و الطيب الورتاني أو نستمع لمحاضرات زعماء حزب الدستور حين كانت مراجعها اسلامية و مصادرها قرانية للحث على الجهاد لأن المغرب العربي كان ما يزال تحت نير الاستعمار التنصيري، و أذكر أني كنت من بين الحضور في اجتماع الزعيم صالح بن يوسف حين تولى القاء خطبة الجمعة في جامع عقبة بن نافع ذات يوم من أيام 1955 و كنت طفلا لا أفقه شيئا مفيدا مما كان الزعيم يقوله لكن حضوري كان بسبب الجوار بين بيتنا و الجامع. نعم لقد كانت هذه هي البيئة الفكرية التي تربى ضمنها و في أكنافها جيلي، أي المتميزة بجمع قادتنا للحس الوطني و الأصول الاسلامية، فقد كان رئيس شعبتنا الدستورية بحي الجامع بالقيروان هو الشيخ الطيب الباجي الذي كان من مؤسسي الحزب الحر الدستوري التونسي في 4 مارس من سنة 1934 بمدينة قصر هلال و كان معلمنا في مدرسة الفتح القرانية الشيخ محمد بودخان الذي كان يراوح حياته بين تعليمنا كمدرس و بين السجن كمناضل وطني.و لذلك فان اعدام المفكر الاسلامي الشيخ سيد قطب كان لنا بمثابة الزلزال هز منا أركان الضمائر لأنه ظهر لنا في ذلك الوقت بمثابة قطيعة قاسية بين الفكر الوطني القومي و بين الفكر الاسلامي الثوري، لأن بورقيبة كان لنا نحن جيل ما بعد الاستقلال الزعيم الذي يجمع بين قيم الاستقلال السياسي و فضائل الاستقلال الروحي وهو الذي تزعم معركة مقاومة التجنيس عام 1933 و التي سقط فيها شهداء بررة منهم المجاهد شعبان البحوري بالمنستير، بل كان اللقب الذي يعطي لبورقيبة الشرعية هو لقب المجاهد. و بذلك الرصيد الاسلامي كنا دستوريين و لم نكن نتوقع بأن البلاد العربية كلها مقبلة على عملية مسخ خفية ترمي الى تذييلها لأعداء عروبتها و اسلامها تحت شعار اللحاق بركب الحضارة. و هذا ما جعلنا بشكل عفوي نندد بمأساة اغتيال الشهيد سيد قطب و نعتبر هذه الجريمة حدا فاصلا بين مرحلة الالتحام بوجدان الأمة و مرحلة الاستبداد السياسي التي تبرر كل التجاوزات و تقمع كل رأي حر من أجل البقاء في السلطة. وهاتان المرحلتان مرت بهما تقريبا كل البلدان العربية في أعقاب استقلالها الاداري حيث وقع كسر لم يجبر الى حد اليوم بين الوطنية و القومية و الانتماء لأمة الاسلام . و أعتقد بأن هذا الكسر كان أبرز في كل من مصر و تونس لأنهما رائدتان في مسار المدرسة الاصلاحية الاسلامية على أيدي مصريين و تونسيين أمثال رفاعة الطهطاوي و رشيد رضا و محمد عبده و الوزير خير الدين و ابن ابي الضياف و سالم بو حاجب الى اخر القائمة. و من يريد الاطلاع على خيبة أمل الاخوان المسلمين في مصر و شعورهم بالمرارة لأفتكاك الثورة المصرية من أيديهم ، فليقرأ تاريخ ثورة يوليو 52 ليدرك بأن ثورة الضباط الأحرار ما كان لها أن تنجح لولا موافقة و حماس المرشد العام للاخوان الشيخ حسن الهضيبي و من حوله الرؤوس المفكرة للثورة و من بينهم الشهيد سيد قطب،لأن عبد الناصر كان بفضل قرب محمد أنور السادات و عبد المنعم عبد الرؤوف من الحساسية الاخوانية من أشد الضباط تمسكا بعقيدة الاخوان و حرصا على حضور دروس الشيخ الشهيد حسن البنا قبيل استشهاده . و أنا حالفني الحظ للأحاديث المطولة في مدينة الدوحة مع شقيق المرحوم سيد قطب العالم المستنير الشيخ محمد قطب وهو يرى ما أراه من تفسير للأحداث. ثم ان السادات أقر في كتابه( البحث عن الهوية) و كذلك المفكر غالي شكري في كتابه(مصر الثورة المضادة)بأن عبد الناصر و محمد نجيب كانا في الصف الأول يصفقان للمحاضرة التي ألقاها سيد قطب بعد عودته من جولته الأمريكية في 16 أغسطس 1952 بعنوان انهيار الأمبراطورية الأمريكية! و لا أخفي قرائي الأفاضل بأني أريد من خلال احياء الذكرى الأربعين لاستشهاد العالم سيد قطب أن أفيد جيل الشباب المسلم ببعض الحلقات التي لم يكتب لهم أن يعيشوها من ملحمة الجهاد الوطني و أن أجزم بأن ذلك الجهاد الشعبي الذي شمل كل شعوب المسلمين ضد الاستعمار انما كان بلا شك جهادا من أجل استعادة الهوية و انقاذ الروح المسلمة من المسخ و التبعية و التشويه، و بأن النخب العربية التي مارست السلطة فيما بعد لم تكن مدركة تمام الادراك لذلك الرصيد، بل كانت مخلصة النوايا لبناء الدولة العصرية و مقاومة التخلف و تحقيق الاستقلال، و لكنها رأت في تسييس الحركات الاسلامية عدوا لدودا لمشروعها الوطني فأعلنت عليها الحرب. و بالمقابل لم يدرك زعماء الحركات الاسلامية مخاطر التسييس الكامل للخيارات الدينية مما جعلها تتصلب بازاء الزعامات الوطنية فتدفع السلطات الى القمع عوض دعوتها بالتي هي أحسن الى الوفاق و الحوار. و كانت القطيعة نتيجة أخطاء من الجانبين، نرجو مخلصين أن يقرأها اليوم في 2006 كل من أصحاب الأمر و أصحاب الفكر بعيون المصالحة و طي صفحات الماضي و الانطلاق اليد في اليد لمواجهة التحديات وهي عديدة و تحقيق طموحات الأمة وهي مشروعة.