إن "الدولة المعاصرة" هي أحدث صور المجتمعات البشرية التي عرفها البشر على الكرة الأرضية. وهي - بمفهومها المعاصر - لا تضم مجرد شعب وإقليم وسلطة حاكمة، وإنما هي – فوق ذلك - تتسم بعدة سمات تميزها عن غيرها من المجتمعات السياسية القائمة في الكثير من دول ما يعرف بالعالم الثالث، وعلى رأسها بالطبع عالمنا العربي. فما هي الدولة المعاصرة؟ وكيف تختلف عن الكيانات البشرية التي يسكنها الكثير من بني البشر؟ أولاً - تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدولة المعاصرة على أساس مبدأ حكم القانون، أي أن هناك قانونا يحتكم إليه الجميع (حكاماً ومحكومين) في تنظيم شؤونهم وفي تعاملاتهم الحياتية. وفي الدولة المعاصرة لا يوجد تميز ضد فئة ما على أساس الدين أو المذهب أو اللغة أو اللون أو الأصل أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، كما لا يتم حرمان جماعة ما من التمتع بحقوق التجنس، أو الانتقاص منها. هذا فضلاً عن أن العلاقة بين الحكام والمحكومين – وبين المحكومين أنفسهم – تقوم على أساس رابطة المواطنة، أي أن الكل يتمتع بمجموعة من الحقوق ويلتزم بمجموعة من الالتزامات، فليس ثمة مكان لعلاقة الولاء أو الرعوية، وتقلد المناصب العامة – أو التنافس عليها - يعتمد على معايير الجدارة والكفاءة، وليس على التوارث أو التلاعب بالقانون لتسهيل توارث المناصب. كما يُدرك الحكام في الدولة المعاصرة أنهم ليسوا أصحاب السلطة أو ملاكها وإنما مجرد موظفين عموميين لهم دور محدد هو حكم البلاد بتفويض شعبي. ثانياً- السلطة السياسية في الدولة المعاصرة تقوم على مجموعة من المؤسسات القادرة على حكم الدولة وليس إدارة شؤون الأفراد أو إدارة الأزمات التي يتعرضون لها. أي أن دور مؤسسات الدولة هو وضع معايير اجتماعية عامة ومنصفة، أي وضع القوانين والقرارات العامة الملزمة للجميع – حكاما ومحكومين - بلا استثناء، وامتلاك القدرة على تنفيذ هذه القرارات، والتأكد من طاعة المحكومين لها. أما المجتمعات التي لا تمتلك السلطة فيها القدرة على تنفيذ القانون، ولا يجد الناس فيها معايير واضحة يستندون إليها في تعاملاتهم اليومية وفي تعاملهم مع الحكام، وتنتشر انتهاكات القوانين بل والأخلاقيات العامة فليست بالطبع دول معاصرة. ثالثاً- لمؤسسات الدولة المعاصرة نطاق عمل هو العمل العام، والدولة في هذا تختلف عن المشروع الخاص الذي يعمل في مجال محدد غير عام. وهدف مؤسسات الدولة هو العمل على تحقيق الصالح العام لمجموع المواطنين، وليس مصلحة فئة أو جماعة معينة، أو حزب معين، أو طائفة بعينها. ولذا فالدولة المعاصرة لا تشهد ممارسات مثل العمل على تنفيذ مصالح المنتسبين لحزب ما أو لطائفة معينة، أو تسخير إمكانات المجتمع لخدمة قطاع معين كقطاع الأمن والجيش على حساب قطاعات أخرى، أو إهدار موارد المجتمع على أوجه إنفاق غير ذات جدوى أو من خلال تطبيق سياسات عشوائية أو ارتجالية، أو تسخير موارد المجتمع وثرواته البشرية والمادية لهدف الإبقاء على النظام الحاكم وضمان أمنه. رابعاً- تتسم السلطة في الدولة المعاصرة بالشرعية، أي بقبول قطاعات واسعة من الشعب السلطة القائمة والنظر إليها على أنها جاءت بتفويض شعبي للعمل من أجل المصالح العامة للمواطنين. وهذا يعني أن الحكم ليس حقاً إلهياً كما في النظم الثيوقراطية، وليس حقاً موروثاً كما في النظم الوراثية التسلطية، كما أنه لا يتم من خلال القهر والغلبة كما في النظم العسكرية والدكتاتورية. خامساً- تتسم الدولة المعاصرة بعدم تسييس مؤسسات القضاء والجيش والأمن والمخابرات. فالقضاء مستقل عن مؤسستي التنفيذ والتشريع السياسيتين، وأجهزة الجيش والأمن مؤسسات وطنية تحترف مهام الدفاع عن المواطنين وموارد المجتمع. وهناك آليات لضمان ذلك كوجود هيئة قانونية وظيفتها الحكم على مدى دستورية القوانين والفصل في النزاعات التي قد تثور بين مؤسسات الدولة ذاتها، واحتراف العسكريين ورجال الأمن وحصر وظائفهم في الأمور الدفاعية والأمنية فقط. أما تسلط فئة أمنية ما، أو تدخل السلطة في شؤون القضاء والأمن والجيش من خلال سياسات التعيين والترقية أو عن طريق المكافآت والهدايا والعطايا فلا يستقيم بالطبع مع مفهوم الدولة المعاصرة. سادساً- تقوم الدولة المعاصرة على أساس وجود ميزانية عامة وبيروقراطية منظمة (أي أنظمة إدارية بموظفين عموميين) تُمول من خلال نظام ضريبي متطور، مع تمتع مؤسسات الدولة بالقدرة على جمع الضرائب وإيداعها الميزانية العامة. أما المجتمعات التي لا تفصل بين ميزانية حكامها وميزانياتها العامة، ولا تمتلك نظاماً ضريبياًً فعالاً، أو لا تمتلك القدرة على جلب الضرائب بطرق منصفة وفعالة فينقصها بالطبع أحد السمات التي تتمتع بها الدولة المعاصرة. كما أن توفر ثروة أو مورد طبيعي ما لا يجب أن يكون ذريعة للتحكم في مصائر الناس ومستقبلهم، فالموارد ورؤوس الأموال الحقيقية هي تلك تستخدم في خدمة الشعوب لا الحكام، وتتجاوب مع تطلعات الشعوب وتعمل على حل مشكلاتهم، وتُنفق في إطار قانون عام يحدد أوجه الإنفاق على كافة القطاعات بشكل يتسم بالإنصاف والشفافية. وأخيراً – تتسم الدولة المعاصرة أيضاً بجملة أخرى من السمات لعل أبرزها تمتعها بالحد الأدنى من عنصر السيادة، أي قدرة مؤسساتها الحاكمة على اتخاذ القرارات السياسية بلا خضوع لوصاية هيئة أو جماعة ما في الداخل، ولا لإرادة مباشرة أو غير مباشرة من دول أجنبية، هذا فضلاً عن تمتعها بالقدرة على التحكم في مداخل ومخارج إقليمها الجغرافي، وتمتعها باعتراف دول أخرى لتكتسب بذلك مجموعة من الحقوق والالتزامات على صعيد القانون الدولي وفى إطار المنظمات الدولية. وتبقى الإشارة إلى أمرين هامين، هما: الأول: إن صورة الدولة المعاصرة ليست صورة مثالية مطلقة، إذ إنها نتاج جهد إنساني يتسم بالنقص والقصور بطبيعته، لكنه ينشد الكمال والإتقان أيضاً. ولذا تعمل العقول هناك دوماً على حل الكثير من المشكلات التي يواجهها المواطنون بالاعتراف أولاً بأوجه القصور، ثم بالعمل على مواجهتها بأساليب تعتمد منهجاً عقلانياً موضوعياً، وتبتعد، إلى حد كبير، عن العوامل الذاتية والشخصية. الثاني: إن هذه الصورة ليست غربية المصدر بشكل مطلق، إذ هي نتاج حضارات مختلفة. فلئن اخترع الغربيون مؤسسات مثل البرلمانات الحالية، وآليات مثل الانتخابات الدورية والتمثيل النيابي والفصل بين السلطات والمراجعة القضائية وغير ذلك، فإن مبدأ حكم القانون طُبق في المجتمعات الإسلامية قبل أن يعرفه الغرب بقرون، كما أن أسس الحكم في الإسلام تقوم على قيم مثل العدالة والإنصاف والمصلحة العامة والفصل بين ميزانية الدولة وميزانية الحاكم ومقاومة الحاكم الظالم وغيرها من القيم والمبادئ. كما أن ثمة جذور يونانية ورومانية لما تتمتع به دول أوروبا وشمال أمريكا اليوم، فالرومانيون، مثلا، أعلوا من شأن المساواة أمام القانون، كما أنهم طوروا بدايات الحكم المقيد وحكم القانون والفصل بين السلطات وانتخاب المسؤولين لفترات محددة. إن المجتمعات التي لا تتسم بسمات الدولة تغيب عنها الإرادة اللازمة لاحترام القانون والقواعد العامة، ولا يوجد فيها معايير اجتماعية منصفة يحتكم إليها الناس في تعاملاتهم، ولا تفويض شعبي للحكام، ولا فرق فيها بين ميزانية الحاكم وأسرته وحاشيته والميزانية العامة للدولة، ومؤسسات الجيش والقضاء والأمن تعمل من أجل بقاء النظام، الذي يخضع بشكل أو بآخر لوصاية هيئة أو هيئات داخلية أو قوى خارجية. إنها المجتمعات التي اُبتليت بحكامها الطغاة، ووُصفت زوراً وبهتاناً بالدولة، فيمكن تسميتها "الدول المنكوبة". ------------ * قسم العلوم السياسية - جامعة الإسكندرية.