لست أدري لمصلحة من تتم اثارة القضايا الايديولوجية الجاهزة في مثل هذا التوقيت العصيب الذي يمر به التونسيون ؟!..لست أدري كيف لنا كتونسيين أن نحقق التعايش والتسامح والتصالح في ظل سياسة خلط الأوراق التي يمارسها البعض من المتأدلجين الى حد طرح القضايا الخلافية في غير وقتها وزمانها؟ ذاك هو مايتبادر مباشرة الى الأذهان حين أتأمل في ماتطرحه النخبة اليسارية التونسية بشقيها المتحالف مع السلطة وشقها المتموقع بأحجام مختلفة مع المعارضة... لا أتصور الأمر مجرد وفاء للايديولوجيا والقناعات الماركسية اللينينية أو غيرها من تمفصلات مشروع يقدم نفسه على أنه العقلاني والديمقراطي والحداثوي,بل انني أعتقد جازما بأن طرح قضايا تحرض بشكل مباشر على الحجاب وعلى الهيئة الحالية لما توصلت اليه النخب من توافق على الاطار العام والعريض لمجلة الأحوال الشخصية,كل ذلك من شأنه أن يلقي بقدر كبير من الشكوك حول مدى أولوية قضايا الافراج عن المعتقلين السياسيين ووضع حد لحالة الانغلاق السياسي والاعلامي العام الذي تعيشه البلاد التونسية ! ان قضايا الاصلاح السياسي الشامل والجاد لن تمر قطعا واطلاقا عبر بوابة نسف الحرية الحقيقية في الاختيار,اذ أن شروط هذه الحرية في مثل هذه القضايا تعتبر قطعا منعدمة ومهدورة,ولعله من الأهمية بمكان التذكير بأن حرية المعتقد واللباس تعتبر من الحريات الأساسية التي لايمكن لأي ديمقراطي حقيقي نسفها عبر التحريض على حق المرأة في الاختيار الحر للباسها باسم أفكار ضد التطرف أو غيرها من أحابيل سياسية واعلامية لايمكن أن تنطلي على العقلانيين والديمقراطيين الاسلاميين والوطنيين. كلمات يمكن أن أوجهها للزميل بسيس وهو يحاول من حين لاخر نسف أي أسس للتقارب بين المعارضين وتكتلاتهم الناشئة عبر النفخ في كير أيام داحس والغبراء,ولعله بما كتب على صفحات الصباح التونسية هذا اليوم الجمعة 15 سبتمبر 2006,لم يكن مجرد معبر عن خواطر تجاه تكريم فنانة تونسية محجبة بمناسبة حفل نظمه مهرجان الحمامات الدولي,وانما تجاوز ذلك ليلعب دور مثقف محرض على الاخر المغاير بواجهة وداعي الحفاظ على مكتسبات الحداثة عبر نصيحة ملغومة موجهة الى السلطة في قالب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ,وهو ما فضل أن يعبر عنه لفظا بنهر السلطة عن "تقديم الدعم والمصداقية لخطاب التطرف والمتطرفين؟!!"... لست أدري اذا كان عينا للعقلانية والديمقراطية أن تضيق نفس برهان برؤية فنانة محجبة على ركح التكريم الثقافي من قبل وزارة الشؤون الثقافية ,ولست أدري عقلا اذا كان مافاح به قلمه في هذا الاطار معبرا حقا عن روح وفاقية تصالحية بين أبناء الوطن الواحد ؟! لقد قدمت تونس الرسمية نماذج مبتذلة من الفنانات اللواتي لايجدن حظهن على مشارف مهرجانات عربية بارزة ودولية وذات صيت عربي واسع وربما حتى دولي...ولقد احتفى بهن ركح قرطاج العظيم واهتزت لأقدامهن العارية من الثقافة الراقية والناهضة مسارح جلبت لهن خصيصا من الخارج لتنصب على ملاعب رادس والمنزه ورغم ذلك لم نتشرف برؤية قلم برهان يتحرك قيد أنملة للتساؤل عن مدى جدوى مثل هذه الخيارات الثقافية المبتذلة في الارتقاء بحياة العقلانيين والديمقراطيين التونسيين والعرب ربما... وفي المقابل سكت المعنيون بهجوم الأستاذ برهان من الموصوفين سحرا كلاميا بالمتطرفين عن هذا الابتذال الثقافي مؤمنين بأن الحرية والديمقراطية هما الكفيلان وحدهما بتهذيب وتنمية أذواق الناس وتحديد اختياراتهم في الرؤية والمشاهدة وهو ماأثبته التونسيون يوم أن تفاعلوا مع ماجدة الرومي ومارسال خليفة وفيروز ولطفي بوشناق وهم يغنون للبنان الصمود والشموخ الأرزي... أما عن الذين حز في أنفسهم "حيف" مجلة الأحوال الشخصية وظلمها للمرأة التونسية,فقد كانوا فيما سبق من سنوات وعقود يعتبرونها مجلة تقدمية ليس لها مثيل في البلاد العربية والاسلامية,وقد كانوا فيما مضى يحرجون خصومهم الاسلاميين سياسيا بالامعان في جلدهم عبر تحري موقفهم من المجلة وماأثارته من قضايا تحديثية ,حتى أن الدستور التونسي تحول فعلا الى مجلة الأحوال الشخصية أما الدستور الأصلي للبلاد فقد تعرض لأخطر التنقيحات التي حولت النظام دستوريا الى رئاسوي وأعادت الرئاسة بشكل أو باخر الى مدى الحياة ,وقيدت من حرية انشاء الأحزاب ...ورغم ذلكم لم ينهض هؤلاء المحترمين الى الاحتجاج الصارم باستثناءات شريفة نجدها اليوم مقموعة سياسيا ومحاصرة أمنيا ! ان اختيار هذا التوقيت بالذات من أجل اثارة هذه القضايا الايديولوجية المحضة والبلد يعيش وضعا سياسيا استثنائيا بفعل اهدار الحريات الخاصة والعامة من شأنه أن يؤول بلا شك على أنه رغبة واضحة في نسف مشروع 18 أكتوبر للحقوق والحريات ,ثم انه والحق يقال دعوة واضحة للسلطة من أجل التمادي في خيارات ايديولوجية مسقطة عليها بحكم اختراق الحزب السري لأجهزتها الأمنية والاعلامية والسياسية,ومن ثمة قطع الطريق على أي بوادر مصالحة وطنية حقيقية عادلة تضع حدا لحالة الصراع المفتوح بين قطبي السلطة والمعارضة الاسلامية الحداثية والمعتدلة. كاتب واعلامي تونسي : [email protected]