بعيدا عن الأحكام المسبقة فان للسياسة قواعد وموازين تسير بحسبها,وهو ماينطبق عموما على مفاصل الفعل والحراك السياسي نتائج ومحصلات,ولذلك نذهب يقينا الى أن مايحدث في تونس منذ سنوات طويلة كان نتيجة لاختلال موازين القوى بين الدولة بفاعليها الرئيسيين ومجتمع مدني عانى كثيرا من التمزق وعمق الانقسام الايديولوجي وهو ماتجلى ضعفا وترددا وصراعات بين مختلف مكونات النخبة والفضاء العام,حتى أنه حن لأحد الأصدقاء أن يتندر بأن يشتري مساحة اعلانية على صحيفة الوسط التونسية ينعي فيها موت السياسة رسميا واحتجاجيا في تونس... واذا كنت لاأشاطر صديقنا المشار اليه الرأي في تقويمه المبالغ في التشاؤم لارتسامات المشهد السياسي التونسي ,الا أنه بالامكان استقراء حالة من التفكك الواضح للأسرة السياسية المعارضة من خلال فشلها في تحويل مبادرة حركة 18 أكتوبر الى حالة نهوض وطني شامل تعيد الاعتبار لمعاني التوازن بين الدولة والمجتمع . وحتى نكون من المنصفين فانه يتعين علينا القول بأن اصرار نظام الحكم على تمزيق هذا الحلف الناشئ والهش على أرضية استعمال السلاح الايديولوجي الناسف ,ساهم في ابقاء المجتمع الأهلي والمدني في حالة من الحيرة والشك والتردد وانعدام جسور الثقة ,الشيء الذي انعكس على تردد السلطة في الاقدام على خطوات انفتاحية مشجعة على الانخراط في منظومة الاصلاح الداخلي. الاصلاح الداخلي كان محموما لدى سلطة الاشراف والقرار بهواجس سياسية شجع عليها ونماها وجود جناح يساري قوي داخل أجهزة التجمع -أي الحزب الحاكم-وأجهزة الأمن التي باتت خليطا من السادي المتسلق والسياسي الطامح والايديولوجي المستميت... مواقع القرار في تونس أصبحت متعددة الى الدرجة التي أصبح فيها البعض يحرض أعلى هرم السلطة على عدم الاقدام على أي خطوة اصلاحية ولو في اطار من العفو الخاص وليس العام... البعض يريد قطعا الابقاء على ماهية الأوضاع الحالية في اطار مايطمح اليه من شرعية تجديدية للملف السياسي في صورة مااذا حصل أي فراغ! والبعض الاخر يتحرك من داخل أجهزة السلطة في اطار مواقع استشارية قصد تجميد الأوضاع السياسية الحالية خوفا مبالغا فيه وغير مبرر من المنافسة السياسية الحقيقية في صورة مااذا وقع الاصلاح المرجو والمأمول. وعلى الضفة الأخرى حيث المعارضة ,نكاد نرى المشهد الايديولوجي يلقي بظلاله مجددا على واقع الفضاء العمومي ,اذ أن قضايا الحجاب والميراث مازالت تداعب البعض كأحابيل من أجل نسف أي تشكل سياسي يتعالى عن دكاكين الايديولوجيا البائسة... أما البعض الاخر فمازال حالما بالثورة والشعب الذي أرهقته لقمة العيش,وهو ماجعل صوته الحزبي المسموع سابقا يتراجع الى مواقع خلفية غير مرجوة وغير مأمولة... أما عن أكبر فصائل المعارضة بتقدير ماهو غالب وسائد في المنطقة العربية والاسلامية ,فان هذا الأخير لازال يعاني من نزيف حقيقي نتيجة تواصل رحلة السجن والمنفى والمحاصرة الأمنية والسياسية,هذا علاوة على ماخلفته الأزمة ونتائجها السياسية والثقافية الخطيرة على المجتمع من أزمة ثقة تجاه الخطاب السياسي للقيادة وجدوى ماطرحته من رؤى حملت الحزب على كثير من التراجع وخسارة مساحات واسعة من الفعل والحركة. واذا كان للنهضة اليوم تيار تجديدي واسع يوجد بداخلها وعلى حواشيها وأيضا خارجها بعد أن قرر الكثيرون من أبنائها اختيار مساحات معتبرة من الاستقلالية الحزبية والسياسية,فان ماتحمله رؤى هذا التيار الشبابي والتجديدي من طموحات وطنية لاتخرج عن اطر المشاركة والمساهمة والتقارب بين النخب والمصالحة على أرضية أن الوطن سفينة للجميع ولايجوز لأي كان أن يخرقها أو يستفرد فيها بالمصير ,فان هذا التيار مازال الى حد هذه الساعة لم يعلن عن نفسه في تشكل يمكن أن يخرج البلاد من حالة الاستقطاب الثنائي المرير وذلك لاعتبار نمط تعاطي السلطة الى حد هذه الساعة مع كل المعارضين الحقيقيين بأسلوب الخيار الأمني. ان تواصل وتيرة المحاكمات السياسية واخرها ماحصل في حق عناصر قيل أنها قريبة من حزب التحرير,علاوة على ماتعرض له واحد من أبرز وجوه الاعتدال السياسي وهو الأستاذ حمادي الجبالي وزوجته من تحقيق قضائي بتهمة تتغلف بطابع قانوني في الأيام الأخيرة,يضاف الى كل هذا تواصل مأساة المساجين السياسيين في واحدة من أطول مسرحيات الاعتقال السياسي غير المبرر ولاسيما بعد مرور عقد ونصف على محاكمات بداية التسعينات الشهيرة,ثم تواصل سياسة الحصار والمضايقة الأمنية للكثير ممن أفرج عنهم بموجب عفو رئاسي ,كل ذلك من شأنه أن يلقي ظلالا من الشك حول مااذا كانت هناك ارادة سياسية تهفو الى دخول الموسم السياسي الجديد من منطلق احداث منعرج جديد في الحياة السياسية التونسية... ان مابشر به زميلنا الأستاذ برهان بسيس في حلقات حوارية شاركت فيها معه على الهواء مباشرة على شاشة الديمقراطية يظل حبيس قرار رئاسي على مايبدو من أجل تلافي بقايا مرحلة عصيبة, مر جيران لنا بما هو أعصب منها في كل من المغرب والجزائر وربما حتى ليبيا وموريتانيا ولكن الوطن في نهاية المطاف كان حريا بأن يستوعب كثيرا من تداعياتها ولعل عودة رابح الكبير قبل يومين فقط من منفاه بعد 15 سنة الى الجزائر بعد رسائل ايجابية ومبشرة وضمانات قانونية من الرئيس بوتفليقة ,ثم ماسبق هذا الحدث من خطاب سيف الاسلام القذافي المحمل بنفس تجديدي وروح تصالحية غير مسبوقة,مع ماترتقبه المغرب من تحولات سياسية هادئة وايجابية في كنف رعاية الملكية الدستورية بقيادة الملك محمد السادس من خلال احتواء ظاهرة الاسلام السياسي في حزب مدني ذي خلفية ثقافية حضارية ممثلة في تيار العدالة والتنمية ,علاوة على مايحدث في موريتانيا من تحولات ايجابية في عمومها من أجل تثبيت تجربة ديمقراطية ومدنية تبعد البلد عن الاهتزازات وحمى الاضطراب ,كل ذلك من شأنه وبعين العقل والحكمة والنظر الى المستقبل أن يشجع الرئيس بن علي على اتخاذ قرارات جريئة من شأنها أن تعيد تونس الى مربع الريادة السياسية في مستواها العربي والمغاربي... وفي انتظار أن يحدث ذلك يظل التونسيون متطلعين الى شاشات التلفاز والفضائيات والحواسيب عسى أن تخرج الساحة التونسية من حالة العطالة السياسية التي وصلت اليها . *كاتب واعلامي تونسي: [email protected]