يُجمع المراقبون على أن حظوظ حركة النهضة في انتخابات يوم غد الأحد هي الأقوى على الإطلاق بين القوى السياسية الكثيرة التي تخوض الانتخابات التشريعية في تونس. وهنا يحلو لبعض الحاسدين والمصابين بفوبيا الإسلاميين تبعا لدوافع شتى أن يردوا ذلك إلى أن الحركة هي القوى المنظمة الأهم في الساحة السياسية، مع علم الجميع بأن الحركة كانت العدو الألد للرئيس المخلوع، وتبعا لذلك الأكثر تعرضا للمطاردة والقمع. والحال أن حظوظ النهضة الكبيرة تبدو طبيعية إلى حد كبير، أولا بسبب انتشار الصحوة الإسلامية في سائر الدول العربية ومن ضمنها تونس التي اعتقد ابن علي أن سياسته التي سماها «تجفيف الينابيع» قد آتت أكلها تغييبا كاملا لحركة النهضة، وتغريبا شاملا للشعب التونسي، فكانت النتيجة مفاجئة بعد عقدين كاملين من تلك السياسة التي استهدفت مظاهر الصحوة الإسلامية بعملية استئصال غير مسبوقة في العالم العربي تشبه إلى حد كبير سياسة حافظ الأسد بعد صدامه مع الإخوان مطلع الثمانينات، مع فارق أنها تمت هنا (في الحالة التونسية) عقابا لحركة النهضة على اكتساحها للانتخابات مطلع التسعينيات وليس على حملها للسلاح. ضمن هذا السياق يأتي البعد الآخر الذي يمنح حركة النهضة الحظ الأوفر في الانتخابات والذي يتعلق بكونها الحركة التي دفعت الثمن الأكبر في مواجهة عسف النظام وجبروته وعسكرته للمجتمع التونسي طوال عقدين، إذ دخل الآلاف من أبنائها السجون لسنوات طوال وصلت في حالة بعضهم عشرين سنة، فيما شرد آلاف آخرون إلى الخارج لم يسلموا هم أيضا من مطاردة النظام وتحريضه عليهم بكل الوسائل. كانت سفارات تونس في زمن بن علي عبارة عن نقاط أمن تتابع المعارضين أنى رحلوا وارتحلوا، بل كانت تتابع كل كلمة تكتب عن تونس، وتهدد وتوعد الدول التي تسمح بانتقاد الزعيم التاريخي (بن علي). البعد الثالث بعد التضحيات التي قدمتها حركة النهضة والذي يجعلها الأقرب إلى ضمير الشارع التونسي هو ذلك المتعلق بحيوية خطابها واعتداله وتركيزه على هموم الناس وأولوياتهم بعيدا عن التدخل في خصوصياتهم الشخصية، وبعيدا عن الانشغال بالأشياء الهامشية التي يتهم الخطاب الإسلامي زورا بالتركيز عليها. في خطاب النهضة ثمة انشغال بما ينفع الناس ويمكث في الأرض. وفي هذا السياق يقول زعيمها المفكر الكبير الشيخ راشد الغنوشي «إن الأولوية الآن لإقامة الدولة الديمقراطية وتشغيل الشباب للقضاء على البطالة وإعادة عجلة الإنتاج، وليس الحديث عن تطبيق الحدود ولا فرض الحجاب ولا الحديث عن الولايات للمرأة والقبطي، فمن حق الجميع الترشح لأي منصب دون تفرقة ولا تمييز، ولا يوجد ناطق باسم الألوهية في الإسلام، والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يطبق صحيح الإسلام ولا ينشغل في البحث عن كيفية عقاب الناس، بل في كيفية توفير الحياة الكريمة للبشر وحفظ كرامتهم وحقوقهم». إذا مضت الأمور على نحو معقول، ولم يتدخل رموز النظام السابق الذين لا يزالون فاعلين في الوضع الجديد، إذا لم يتدخلوا بطرقهم غير المشروعة في الانتخابات، فإن النهضة ستشكل الكتلة الأكبر في البرلمان، وهي ستشكل الحكومة بالتعاون مع قوىً أخرى تقترب من خطابها ومشروعها في إخراج البلد من أزماته، ولا أعني هنا الخطاب الأيديولوجي بكل تأكيد، لأن الحركة ليس لديها مانع في التعاون مع أي حريص على مصالح البلد. إضافة إلى التحدي الكبير المتمثل في التعامل مع بقايا النظام السابق، لاسيما الممسكين بخناق المؤسسة الأمنية والعسكرية، وحتى بعض المؤسسات المدنية الحساسة، إضافة إلى ذلك ثمة مشكلة أخذت تطل برأسها في الآونة الأخيرة تتعلق بمجموعات سلفية صغيرة تختط سبيل العنف في التعامل مع الأفكار الأخرى، وهي ستثير من دون شك بعض المتاعب لحركة النهضة عبر المزايدة عليها في مسائل تطبيق الشريعة وفق فهمها القاصر، لكن الحوار معها سيكون كفيلا بحل المشكلة أو التخفيف من حدتها في أقل تقدير. هي مرحلة تزدحم بالتحديات، لكن تجربة السجون والمنافي والعقل الجمعي لحركة النهضة والوعي المميز لرموزها وفي مقدمتهم الشيخ الغنوشي ستكون كفيلة بتذليل الصعاب، ومن ثم المساهمة في التقدم بتونس صوب مرحلة جديدة عنوانها الحرية والكرامة للتونسيين الذين يستحقون أن يتنفسوا قليلا بعد عقدين كاملين من الديكتاتورية، وعقود أخرى سبقتهما اتسمت بضياع الهوية والبوصلة. التاريخ : 22-10-2011