نواصل الحديث مع عدد من رموز المجتمع المدني والاحزاب السياسية حول القضايا التي تشغل الرأي العام. ونلتقي في هذا العدد مع السيد زياد الدولاتي عضو هيأة 18 اكتوبر للحقوق والحريات وعضو المكتب السياسي السابق لحركة النهضة. إن أهمّ ما أعاق هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات للقيام بدورها المنشود خلال السنة الماضية هو أساسا محاصرة السلطة لها في العاصمة والجهات، وهو الأمر الذي منع بالفعل الأطراف المكونة للهيئة من تعميق الحوار بينها وتقريب وجهات النظر حول العمل المشترك وتجسيد ذلك على أرض الواقع. وفي العموم أقدر ان الحصيلة ايجابية ولكنها لم تكن في مستوى طموحاتنا وآمالنا ولكن يتوفر الآن للحركة رصيد من الثقة والوضوح والانسجام يؤهلها أن تكون في المستقبل قادرة على تحقيق أهدافها والاستجابة لطموحات شعبنا في الحرية والعدالة. المطالب التي رفعتها الحركة منذ تأسيسها تمثل الحدّ الأدنى، وهي أرضيّة يمكن أن يجتمع عليها الجميع. ولكن يمكن القول أن الحركة مازالت في طور التأسيس ومن المنتظر أن تتطور من إطار للتنسيق والحوار إلى جبهة سياسية إذا أفضى الحوار إلى خيارات سياسية ومجتمعية، فمن مقومات الجبهة السياسية برنامج سياسي واقتصادي وثقافي وسياسة دولية في حدها الأدنى وهذا لا يمكن الحديث عنه الآن قبل أن يتبلور الحوار وتبقى الجبهة أمل ممكن. قناعتي عكس ذلك فالبلاد في أشد الحاجة لمصالحة وحوار وطني لا يقصي أحد. ومن شروط تحقيق ذلك ونجاحه وجود معارضة موحدة ومجتمع مدني قوي. فالدعوة للمصالحة خيار تمليه ضرورات وتحديات محلية ودولية وليس مهادنة للسلطة ولا إحجام عن القيام بالمهمة التي تتطلبها وضعية البلاد. اعتقد أن البلاد تمر بظروف صعبة للغاية وتواجه تحديات داخلية وخارجية تهدد أمنها الغذائي واستقرارها السياسي وهويتها الحضارية وهذه التحديات لن يستطيع الحزب الحاكم أو أي طرف آخر أن يواجهها بمفرده. فالاحتقان السياسي وضعف الاستثمار الداخلي والخارجي وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن مع تفاقم البطالة وتراجع دور الطبقة الوسطى وانتشار ظاهرة الجريمة وغيرها ملفات في أشد الحاجة إلى حوار وطني يتفق فيه الجميع على قواسم مشتركة وحلول أجدى. ونحن في حاجة إلى حوار وطني لوضع عقد ديمقراطي أو دستور جديد يقطع نهائيا مع الانفراد بالسلطة والاستبداد. وأما على المستولى الاقتصادي فتحديات العولمة وفتح أسواقنا للبضائع الأجنبية في منافسة غير متكافئة سينجر عنه طرد المزيد من العمال وغلق المؤسسات وتضخم نسب البطالة وعجز في ميزانية الدولة. وكل هذه التحديات في حاجة إلى حوار وطني يعبئ الجميع من اجل مصلحة الوطن ورقي هذا الشعب. وعلى قدر قناعتنا بالحوار فإني اعتقد أن توحيد صف المعارضة وتطوير قوى المجتمع ودفاعاته يولد توازنا معقولا بين الدولة والمجتمع ويؤسس لحوار جاد. فالحريات والحقوق لا توهب ولكن تنتزع، فلا تنازل ولا حوار مع معارضة مشتتة يقصي بعضها البعض، ولا ديمقراطية بدون معارضة قوية ولا معارضة قوية بدون عمل مشترك. انا على يقين بأن تيار الديمقراطية والحرية والعدالة والهوية هو تيار المستقبل وان المصالحة والحوار الوطني مطلب شعبي سيجنبنا الكثير من الهزات. أولا نحن حزب مدني سياسي وثانيا لا أظن أن السبب الحقيقي لعدم مشاركة حركة التجديد مثلا في 18 أكتوبر والعمل المشترك معنا يعود لاعتقادهم بأننا حزب ديني فقد شارك السيد محمد حرمل في عمل مشترك مع الإسلاميين منذ الثمانينات وأصدروا معنا البيانات وخرجوا في مسيرات جماعية. ولكن عدم المشاركة يعود لأسباب أخرى أتمنى أن تزول وتتوحد صفوف المعارضة من أجل بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي. أما الادعاء بان مشروعنا تيوقراطي فمرده الجهل بالإسلام وتقليد الغرب بدون تمحيص فالتيوقراطية التي تعني أن الحاكم يستمد مشروعيته من الإله وكل ما يصدر عنه مقدس غير قابل للنقد والمراجعة ساد في الغرب قبل عصر النهضة حيث كانت الكنيسة تنصّب الحكام وتضفي عليهم القداسة. كما أن الدين المسيحي ليس شريعة ومنهج حياة فعيسى عليه السلام لم يؤسس دولة بل ترك عقيدة وأخلاق. أما الإسلام فحرر الإنسان من كل أشكال الظلم والاستبداد والطغيان وقرن الطغيان بالفساد "الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربك صوت عذاب". فالإسلام منهج حياة، دين ودولة، عقيدة وعبادة، شريعة وأخلاق. وأقام دولته على أساس الحرية والعدل والمساواة، لا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا أسود على أبيض ولا غني على فقير ولا رجل على امرأة إلا بالتقوى. فالإسلام أقام دولة مدنية السلطة فيها للشعب. فالرسول (ص) رغم علمه بقرب أجله ( حجة الوداع) لم يعين خليفة له ولم يكلف أي جهة كانت بذلك لعدم وجود كنيسة أو أي سلطة دينية أخرى تدعي النطق باسم السماء بل ترك أمر تعيين الحاكم ومحاسبته وعزله واختيار برنامج الحكم ونوعه للشعب عبر الشورى التي نص عليها الدستور. أما إدارة الدولة وبرامجها وسياساتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية فمتروك للاجتهاد القابل للنقد والخطإ والصواب. لقد أقام الإسلام دولة على أساس الدستور كعقد اجتماعي فكان أول عمل قام به الرسول عليه الصلاة والسلام سنّ دستور سمي " بالصحيفة" نظم فيه العلاقة بين سكان المدينة على أساس حرية المعتقد والضمير واعترف بحق المواطنة لجميع سكانها. فالحكم في الإسلام حكم مدني دستوري، السلطة فيه للشعب فهو الذي يختار حاكمه ويعزله وبرنامج الحكم ونوعه والحاكم والمحكوم يخضعون للدستور. والحركة الإسلامية في تونس أكدت منذ نشأتها أنها حركة مدنية برنامجها قابل للنقد والمراجعة ويدخل في دائرة الاجتهاد الذي تتعدد فيه الآراء والمواقف. وقضية المساواة بين المرأة والرجل كيف ينظر لها الاسلاميون؟ المساواة بين كل المواطنين رجالا ونساء من المبادئ الثابتة عندنا فهم متساوون في الحقوق والواجبات. ومن حق المرأة المشاركة في الحياة السياسية العامة والشغل والتعليم وتحمل المسؤولية كما أن مبدإ العدل والمساواة متجسدين في توزيع الإرث ( أنظر النساء آية 7). ففي الفقه الإسلامي نجد 10 حالات يتساوى فيها الرجل مع المرأة وحالة واحدة نصيب المرأة أكثر من الرجل وحالة واحدة نصيب المرأة أقل من الرجل لأن عليه مسؤولية النفقة على الأسرة. وسنرجع لهذه المسألة بمزيد من التوسع في منتدى 18 أكتوبر. العلمانيون يتخوفون من وصول الإسلاميين للسلطة ثم الانقلاب على الديمقراطية؟ أنا اعتقد أن هذا التخوف ليس تجاه الإسلاميين فقط بل تجاه الجميع فمع الأسف أن التجارب المعاصرة في العالم العربي وبعد الاستقلال كانت وراء هذا الشعور. ففي تونس كان بورقيبة علمانيا ومشروعه ديمقراطي حداثوي لكنه انفرد بالسلطة وكان مستبدا وكذلك حكم القوميون في مصر وليبيا وحكم البعثيون والإسلاميون والاشتراكيون في الجزائر والعراق وسوريا والسودان واليمن وكل هذه الأنظمة كانت مستبدة لذلك من حق الرأي العام أن يتخوف من الجميع لكن هذا لا يعني أن كل الأطراف لم تتطور بل العكس فالديمقراطية اليوم أصبحت حلم الشعوب للنهضة والإصلاح، وعلى الجميع الآن أن يبحثوا معا في حوار وطني لا يستثني أحد وضع عقد ديمقراطي يقطع نهائيا مع الاستبداد. وهل العلمانية من صميم الديمقراطية ؟ حسب فهمي للإسلام والديمقراطية فإن هذا الادعاء مرفوض وأن الديمقراطية من صميم الإسلام وذلك لسببين: الأول إن الإسلام دين والديمقراطية نظام سياسي وآلية في إدارة الحوار والاختلاف فلا يمكن أن يقوم تناقض بينهما. والثاني أن العلمانية ليست شرط ضروري للديمقراطية فاسرائيل دولة يقدمها الغرب كله على أساس أنها ديمقراطية وهي تقوم على أساس اليهودية. وكذلك عدة ديمقراطيات أخرى نصت دساتيرها على هوية شعوبها. ثم إن العلمانية تختلف من بلد إلى آخر حيث نجد أحيانا الأحزاب المسيحية. أما بوش فهو يستشهد بالدين في خطاباته ويقول أن فيلسوفه السياسي عيسى عليه السلام. والملكة اليزابات في بريطانيا هي راعية الكنيسة وهذا لم يمنع الديمقراطية. ليس هناك نمط واحد للديمقراطية ولكن هناك قاسم مشترك بين الديمقراطيات يقوم أساسا على مبادئ السلطة للشعب والتعددية الحزبية والتداول على السلطة والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وهي عبارة على جملة من المبادئ لا تتعارض مع الإسلام. ففي الأنظمة الديمقراطية تتفق الشعوب على القواسم المشتركة كالهوية والثوابت الدينية وآليات ومؤسسات ومبادئ النظام الديمقراطي في إطار يهودي أو علماني أو مسيحي أو بوذي وغيرها ولا يتهمها أحد بأنها معادية للديمقراطية. فمن حق الشعوب الإسلامية أن تكون الديمقراطية في إطار إسلامي. وما موقع التعددية في نمط الحكم الذي تؤمنون به ؟ الجواب على ذلك يكون بالرجوع إلى مرجعيتنا الفكرية ومواقفنا السياسية وحرية المعتقد والضمير. وهذه مبادئ ثابتة عندنا فلا إكراه ولا إخضاع ولا سيطرة. قال تعالى " لست عليهم بمسيطر". وقال كذلك " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ". فالله سبحانه وتعالى خلق الناس أحرارا وليس من حق احد أن يفرض عقيدته وأفكاره على الآخر. لقد ضمن الإسلام حق الاختلاف للجميع " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " هود 118. كما أن المجتمع الإسلامي الذي نؤمن به يضمن حقوق المواطنة للجميع دون إقصاء ويكفل للجميع الحرية والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات. فالوطن للجميع وكلهم متساوون في الحقوق والواجبات وكلهم مطالبون بالمشاركة في الحياة السياسية ومجهود التنمية عملا بقوله تعالى "لكل جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فأستبقوا الخيرات" المائدة 48. وقوله " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات " البقرة 148. فهذه الآيات تقر بمبدأ التعددية وحق المواطنة دون إقصاء وتدعو الجميع للمشاركة في الحياة العامة والتسابق والتنافس من اجل الخيرات أي مجهود التنمية وخدمة الوطن. أما مواقفنا السياسية من التعددية فإن الإسلاميين في تونس طالبوا منذ تأسيسهم الاعتراف بالجميع دون إقصاء لأحد وشاركوا في العمل المشترك منذ انبعاثه إلى اليوم والجميع يشهد بذلك. *حاوره محمد فوراتي العدد 375 من صحيفة الموقف الوسط بتاريخ 7 رمضان 1427 ه