إذا انطلقنا من مسلمة مفادها أن لكل ثورة أعداؤها والمتربصون بها ممن استفادوا من الأوضاع القائمة قبلا وغنموا خلالها ما غنموا ، وإذا سلمنا بأن هؤلاء سيستميتون في الدفاع عن مواقعهم وامتيازاتهم السابقة – خصوصا في حالة عدم محاسبتهم بالسرعة الكافية – بات بالإمكان أن نفسر عشرات بل مئات الأحداث والتوترات التي تمر بها بلادنا كما بلدان الربيع العربي الأخرى . *( أستاذ في القانون وباحث ) إذا انطلقنا من مسلمة مفادها أن لكل ثورة أعداؤها والمتربصون بها ممن استفادوا من الأوضاع القائمة قبلا وغنموا خلالها ما غنموا ، وإذا سلمنا بأن هؤلاء سيستميتون في الدفاع عن مواقعهم وامتيازاتهم السابقة – خصوصا في حالة عدم محاسبتهم بالسرعة الكافية – بات بالإمكان أن نفسر عشرات بل مئات الأحداث والتوترات التي تمر بها بلادنا كما بلدان الربيع العربي الأخرى . هذه الأحداث تتفاوت في خطورتها وتأثيراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتتراوح بين الإعتصامات وأحداث الشغب وتعطيل السير العادي للمؤسسات لتصل إلى حد العنف المباشر مستغلة ما توفر من هامش كبير للحرية ومستفيدة من الضعف الذي ما زالت تشكو منه السلطة بأجهزتها المختلفة . ولعل ما يؤكد هذه القناعة ويثبتها في الأذهان هو كيفية توزع هذه التحركات في الزمان والمكان والنسق الذي تسير بمقتضاه والذي كثيرا ما يرتبط ارتباطا مباشرا بالإجراءات التي تتخذها الحكومة خصوصا في مجال التطهير ومقاومة الفساد وكأني بالأطراف التي تقف وراءها تريد أن ترسل بعض الرسائل المشفرة التي مفادها ضرورة الكف عن فكرة المحاسبة وغض الطرف عن هذا الموضوع وإلا ستحول البلاد إلى فوضى عارمة . إن هذه التحركات التي يبدو جزءا كبيرا منها مشبوها ومفتعلا تنتهج نفس الأسلوب تقريبا وتعتمد نفس الوسائل فهي عادة ما تجند بعض المنحرفين وذوي السوابق للقيام بأدوار محددة قد تقتصر على الاحتجاج وقد تتجاوز ذلك إلى غلق الطرقات وحرق المؤسسات والتعدي على الأشخاص والممتلكات . بعدها تتولى وسائل الإعلام وتحديدا المشبوهة منها التسويق لهذه الأحداث عبر تضخيمها والنفخ فيها وتقديمها للرأي العام بشكل يخالف حقيقتها ويغطي على خلفيتها والأهداف الحقيقية المنتظرة منها . هذه الممارسة تؤشر إلى وجود إستراتيجية كاملة يعتمدها هؤلاء المتربصون بالثورة يمكن أن نطلق عليها اسم " إستراتيجية الإرباك " (stratégie d'embrouillement) وهي إستراتيجية فعالة يمكن إضافتها لبقية الاستراتيجيات العشرة التي ذكرها الأستاذ والناشط السياسي " نعوم تشومسكي " في كتابه " أسلحة صامتة لحروب هادئة " ( Armes silencieuses pour guerres sans bruits ) وفي مقدمتها إستراتيجية الإلهاء وإستراتيجية ابتكار المشاكل وإستراتيجية استثارة العاطفة وإستراتيجية نشر الرداءة ... ولعل ما يميز إستراتيجية الإرباك عن غيرها من الإستراتيجيات المذكورة هو فعاليتها الحينية وسرعة نتائجها ، فهي من الإستراتيجيات قصيرة الأمد (stratégie à court terme) والتي تنجح عادة مع الشعوب الفقيرة والهشة في بنيتها الثقافية والاجتماعية . إضافة إلى ذلك فإن لهذه الإستراتيجية بعدا مزدوجا : فهي تربك الحكومة من جهة وتجعلها في موقع دفاع لا يخول لها التقدم في إنجاز مشاريعها التنموية وبالتالي تحقيق وعودها الانتخابية ، كما أنها تربك الشعب وتجعله في خوف دائم قد يتحول إلى نوع من الرهاب (phobie) كما تفقده كل ثقة بحكومته وتجعله نادما أحيانا على التصويت لها . ولقائل أن يقول أين السلطة من كل هذا ؟ ولماذا لا تتحرك بالسرعة المطلوبة للإيقاف هؤلاء وردعهم قبل فوات الأوان ؟ ولماذا لا تعد إستراتيجية مضادة تواجه بها كل محاولة لإرباكها وتشويه صورتها وإظهارها بمظهر العاجز بل والقاصر أحيانا ؟ الحقيقة أن أخطر ما في الأمر هو أن من نطلق عليهم اسم أعداء الثورة ليسوا إلا أشخاصا متنفذين وممسكين بمفاصل الدولة وبأجهزتها الحيوية وأية محاولة لاجتثاثهم ستكون صعبة وصعبة جدا في المرحلة الراهنة لثلاث أسباب على الأقل : - الأول هو عدم امتلاك الحكومة الحالية للوقت الكافي الذي سيجعلها قادرة على " تطهير " البلاد من جل رموز الفساد . فالمسألة ليست بالبساطة التي يعتقدها البعض وللتدليل على ذلك نسوق مثالا واحدا يتعلق برومانيا التي لم تتخلص من آخر شرطي كان يدين بالولاء لنظام الديكتاتور " تشاوسيسكي " إلا خلال هذه السنة أي بعد مرور حوالي خمسة عشرة سنة من الثورة . - الثاني هو قدرة هؤلاء المعادين للثورة على حبك المؤامرات والدسائس والمناورة والتلون وإظهار الولاء . - الثالث هو انخراطهم في شبكة معقدة من العلاقات المتشابكة تتيح لهم التحكم في جل الملفات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية منها وإدارتها عن بعد ، وبذلك تبدو مقولة حيادية الإدارة وصمودها رغم الثورة أكبر كذبة في اعتقادنا لأن هذه الأخيرة لم تكن كذلك بل كل ما في الأمر أنها انتظرت مرور العاصفة ثم عادت لتعيد إنتاج نفس الشخوص ونفس الممارسات . وفي تقديرنا الشخصي إن من يعتقد أن أي مسؤول ولو كان وزيرا بإمكانه أن يواجه هذا الأخطبوط في ظرف سنة أو سنتين يكون واهما . ولعل الكشف عن آلاف المكالمات الهاتفية التي أجراها رجل الأعمال كمال اللطيف مع مختلف الشخصيات الفاعلة في هياكل الدولة قرينة كافية للتدليل على قدرة هؤلاء وإلى أي مدى يمكنهم المضي في انتظار استكمال التحقيقات . - الوسط التونسية - 9 ديسمبر 2012