أكد اقتراع منتصف الولاية الأمريكية اردة الشعب الأمريكي العارمة في تعديل المسار السياسي لبلاده على صعيد الحضور الدولي، باعطاء الديمقراطيين أكثرية المقاعد لممارسة السلطة التشريعية، و كبدوا الرئيس جورج بوش أول هزيمة كبرى منذ ستة أعوام، بعد أن تفرد الجمهوريون بالبيت الأبيض و الكنغرس بدون منازع ولا رقيب. و بهذا التعديل الديمقراطي فان ما تبقى من ولاية بوش أي العامان الى غاية 2008 سيكونان مختلفين تماما عن السنوات الستة الماضية، لأن الدستور الأمريكي يضمن التعايش الصعب بين التنفيذي و التشريعي لتجسيد الارادة الشعبية في التغيير. و يخص القاموس السياسي الأمريكي مثل هذه الحالات بمصطلح طريف حيث ينعت هذه المرحلة بعبارة البطة العرجاء( لام داك). و تغلق واشنطن نهائيا باب الحكم الشامل الذي يقرر و ينفذ و يشرع بلا معارضة. لا نضيف جديدا حين نكرر القول بأن الانتخابات كانت استفتاءا حقيقيا ضد حرب العراق، و أكد هذا المعنى بوش ذاته حين أقال وزيره للدفاع، مهندس تلك الحرب من منصبه بشكل مهين، كما أنه أثبت تلك الحقيقة حين استقبل خصومه السياسيين الديمقراطيين يوم الخميس الماضي ليضع بين أيديهم ملف الحرب و يشرح لهم وجهة نظره و الأسباب التي يراها كافية للتورط الأمريكي في العراق. و بالطبع فان زعماء الحزب الديمقراطي يدركون تلك التبريرات بل و يعرفون من خلال لجنة الدفاع ولجنة الشؤون الدولية و لجنة المخابرات أبعاد التدخل الأمريكي في العراق منذ وقوعه عام 2003 و يعرفون أكثر تكاليف التخبط الأمريكي في العراق بدون برنامج سياسي و بدون تحديد أهداف التدخل العسكري و بدون حماية الشعب العراقي من الفوضى التي أعقبت التاسع من أبريل 2003. لقد كانت الحملة الانتخابية الديمقراطية معتمدة أساسا على قاعدة الانفلات الأمني و الطائفي في العراق، و على المخاطر التي يسمونها هناك بالارهابية التي تضاعفت الاف المرات لتهديد المجتمع الأمريكي و العالم منذ انفجار الوطن العراقي الى فرق و ملل و نحل كانت على مدى سنوات تحت المراقبة، صحيح بدون حوار و لا حريات مضمونة ولكن كانت حياة العراقيين أكثر أمنا حتى تحت الاستبداد. لم يعد سرا اليوم بأن المائتي مليون ناخبا أمريكيا الذين اختاروا نوابهم في الكنجرس و ستة و ثلاثين حاكم ولاية انما اقترعوا ضد ادارة الحرب و ليس ضد مبدأ الحرب، لأن الرئيس بوش هو الذي فاز على جون كيري عام 2004 على أساس الحرب العراقية. و أنا حين أذكر بهذه الحقيقة أتوجه للرأي العام العربي حتى لا يعلق أكثر مما يجب من الأمل، في انهاء الحرب في العراق بصورة سريعة. و بوش يتحمل وزر التوابيت الثلاثة الاف التي هبطت بها الطائرات في المطارات الأمريكية على مدى ثلاث سنوات، وهي التي في النهاية عصفت بوحدانية الجمهوريين في السلطة. و اليوم تنتصب على عرش الكنجرس السيدة الحديدية نانسي بيلوزي لتوجه دفة الحكم بالتوازي مع الرئيس، و ليس للرئيس من مناص سوى تقاسم السلطة في الشؤون الداخلية و السياسة الخارجية مع المنتخبين الجدد و التضحية بالوجوه التي ترمز لسوء الاتصرف السياسي أي رامسفيلد و ربما نائب الرئيس ديك تشيني في مرحلة قادمة ثم بدء الانسحاب من العراق بطريقة أو بأخرى اجتنابا للكارثة. فالمواطن الأمريكي لن يقبل بأن يدفع من جيبه و من ميزانيته و من رفهه ثمن الحرب بلا نهاية وهو يرى بأن الاف المليارات من الدولارات ذهبت سدى و رافقتها أرواح ثلاثة الاف جندي من المارينز. ان الخبير الأمريكي في مؤسسة بروكنز بواشنطن توماس اي مان على حق حين كتب الأسبوع الماضي قائلا: لقد ولى و انقضى العهد الذي كان فيه زعماء الكنجرس مجرد أبواق للرئيس و حل عهد تقاسم الحكم. و بالفعل فان السيدة بيلوزي تدعو الى العمل بالاشتراك للخروج من مستنقع العراق في أقرب وقت و اعادة النظر في التوجهات الكبرى للحضور الأمريكي خارج حدود البلاد. و لا بد من الاشارة الى تقريرجامس بيكر الذي أدان الحرب و طالب بالانسحاب وأثبت بأن المؤسسات الدستورية الأمريكية قادرة على المراجعة، ولكن مراجعة ماذا؟ لقد حاول مسؤولون عرب اجتمعوا في واشنطن يومي 30 و 31 أكتوبر الماضي في مؤتمر عقده المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية العربية الاجابة على هذا السؤال المحوري من وجهة النظر العربية الرسمية، فكان التنديد الواسع الصريح بما سموه الكارثة التي أنجزها التخبط الأمريكي في المنطقة، و ساندهم بقوة أعضاء من مجلس الشيوخ الأمريكي و سفراء أمريكيون سابقون بالعالم العربي و بنفس التنديد. و كان الناطق باسم العرب هو الأمير تركي بن فيصل السفير الجديد للملكة العربية السعودية بواشنطن. هل نحن مقبلون كعرب على توجهات مبتكرة أم على صياغة شكلية جديدة لنفس التوجهات؟ و اذا لم تتحرك واشنطن باتجاه حل عادل و شامل و دائم للملف الفلسطيني و لم تضع حدا للنازية الاسرائيلية فنحن أبعد ما نكون عن الانفراج، ويتحقق توقع المتشائمين بأن المنطقة مقبلة على بركان ذي حمم. *