وقفة فاتحة و ترحم واجبة على جميع العرب و المسلمين و أهل العدل و السلام من الأديان الأخرى أمام الشهداء الأربعة و العشرين في مدينة الحديثة من النساء و الولدان و الرضع والشباب بعد أن قتلهم الجنود الأمريكيون انتقاما لتفجير سيارة عسكرية على أيدي مقاومين و مصرع سائقها و لا ناقة و لا جمل للضحايا الأبرياء في هذه العملية. وقفة اعتبار يا أولي الألباب أمام هذه الفاجعة الاضافية في مسلسل الفواجع الرهيبة التي يعاني منها العراق الشهيد في غياب الضمائر و في معزل عن القانون الدولي وفي غيابات الجب العالمي الجديد حيث لا أخلاق حرب و لا أفق سلام و لا نجدة لمستصرخ و لا حياة لمن تنادي من الأشقاء و الأخوة و عيال العم. مرة أخرى فان الذي فضح هذه المجزرة الجديدة و ندد بها هم الأمريكان أنفسهم و لدى هذا الشعب من الأحرار و أنصار العدالة و الحرية الكثير، فقد أعلنت الواشنطن بوست في عدد يوم 27 مايو بأن خمسة رجال عراقيين هرعوا في سيارة تاكسي لاستطلاع الخبر في البيوت المستهدفة تم استقبالهم بوابل من رصاص الرشاشات و صرعهم الجنود الذين كانوا في أزمة هستيريا. و يتزعم عضو الكنجرس الديمقراطي جون مورثا لجنة تشكلت من برلمانيين و كبار الجنرالات الأمريكيين لاستجلاء الحقيقة حول هذه الفاجعة التي أطلق عليها الاعلام الأمريكي اسم ( ماي لاي ) العراقية، و للجيل الصاعد الذي لم يعرف ( ماي لاي) نقول بأنه اسم قرية فيتنامية تم الانتقام من سكانها في نهاية الحرب الأمريكية على الشعب الفيتنامي عام 1973 و شاع خبرها و ساهمت قرية ( ماي لاي ) في توعية الأمة الأمريكية بفداحة الحرب الجائرة، و تحت الضغط الوطني و الدولي حقق الشعب الفيتنامي أعظم انتصار على القوات الأمريكية التي انسحبت من فيتنام عام 1974 مخلفة الحقول المحروقة و المدن المدمرة. و أمام مأساة الحديثة تحركت وسائل الاعلام الأمريكية قبل سواها لتدين المجزرة و نشرت مجلة تايم جهود اللجنة المكلفة بالتحقيق و بثت قناة اي بي سي الشريط الذي صوره طالب عراقي في قسم الاعلام مباشرة بعد الجريمة. و انضم لحركة التنديد الجنرال جون باتستي الذي كان طالب في الخريف الماضي باستقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مع نخبة من أكبر الجنرالات السامين في الأركان الأمريكية. و بعد أيام من هذه الضجة الأمريكية تم يوم الخميس الماضي الاعلان عن مقتل أبو مصعب الزرقاوي، و لكن المقاومة العراقية لها من الجماعات و الأنصار ما يجعلها طويلة النفس، مع أن الفوضى التي تعم العراق اليوم لا نرى لها لا مبررات و لا أصحاب قرار و لا أهداف استراتيجية. فالعراق يدخل بالتدريج منطقة الحرب العمياء و التي تأخذ أشكال الصراعات الطائفية حينا و أشكال المقاومة العنيفة حينا و لكن في أغلب الأحيان يروح ضحيتها مواطنون أبرياء لا نفهم أسباب قتلهم بالعشرات دون أي مشاركة لهم في أي عمل عسكري أو سياسي. و الغريب أن العرب كأنهم غائبون عن الساحة لأنها لم تعد لا ساحة حوار و لا منطق و لا وفاق، بل ساحة قتل عشوائي مجنزن بلا لسان و بلا عيون. فأين الأفق السياسي الذي وعد به الحلفاء قبل التاسع من أبريل 2003 ؟ و أين الوفاق العراقي الوطني الذي وعد به زعماء الطوائف و قادة الأحزاب بعد تغيير النظام الصدامي؟ أ لم يتعهد هؤلاء جميعا للشعب العراقي الشهيد و الخارج من سنوات الجمر و من الحرب العراقية الايرانية بأنهم يوم يطاح بصدام حسين سيكونون يدا واحدة لبناء العراق و اقرار اسلام و انجاز الديمقراطية و الحكم الصالح بل بتقديم نموذج الديمقراطية للعالم العربي و الشرق الأوسط الكبير والصغيرانطلاقا من بغداد، حتى نقتدي بها في بلداننا و نستنير بتجربة الحريات القادمة من الجنة الغربية؟ أين نحن من هذا الحلم على مسافة ثلاث سنوات من حرب مدمرة بدأت بدك مدن العراق وقتل عشرات الالاف من الضحايا الجانبيين كما تسميهم الدعاية الحربية و استمرت بحل الجيش العراقي وهو المؤسسة العتيدة الراسخة البعيدة عن الطائفية و تفكيك هياكل الدولة ونهب المتاحف و حرق المكتبات و تعبئة الغول الطائفي لتدمير وحدة العراق القديمة القوية. أين نحن من أمل النخبة العراقية في عراق حر و مسالم و قوي و مستقل كما كان يقول لبي الصديق الدكتور غسان العطية الذي قضى زهرة شباب العمر في لندن مقاوما للظلم والاستبداد بعد أن كان سفيرا للعراق و كان بامكانه أن ينافق و يغتنم المناصب لكنه رجل عف القلب و اللسان عرفته حين كان سفيرا للعراق لدى جامعة الدول العربية بتونس في بداية الثمانينات، و تبخر حلمه مع النخبة العراقية التي أصبحت تفضل المهاجر على العودة لبلاد مفتوحة على جميع المخاطر. *نشر بالوسط التونسية والشرق القطرية والوطن العمانية بتاريخ 14 جوان 2006 .