"اتصالات تونس ترحب بكم في بلدكم الثاني تونس". الإرسالية القصيرة التي تلقيتها على خط هاتفي القطري لدى وصولي إلى تونس آلية حيث تستقبل الشبكة المحلية الشبكات الدولية المتوافدة على البلاد. لكن مرت الأيام وشعرت حقيقة أني في بلد ثان أو على الأقل في بلد ليس بلدي الذي عرفته وعشت فيه صبايا بعد العودة من مسقط رأسي باريس. ليس هذا هو البلد الذي تعلمت فيه وقمت فيه بخطواتي الأولى في الصحافة. زيارتي كانت إجازة كنت أتشوق إليها لا سيما وأني لم أقض شهر رمضان في تونس منذ سنوات. لكن، كل شيء تغير... حتى رمضان. كانت حملة رهيبة تشنها السلطات وتابعيها من صحف ومسؤولين محليين على الحجاب. الدعابة في تونس كانت أن نقول إن السلطات "تغض البصر" عن الحجاب في الشهر الكريم وتترك مناشيرها التي تحظر "اللباس الطائفي" في الدرج قبل العودة إلى التصعيد غداة العيد. لكن شيئا من هذا لم يكن هذه المرة وفاض الكيل بالسلطات التي أطلقت العنان لحملة تصعيدية لم يسبق لها مثيل ضد ما وصفته باللباس الدخيل. بل وذهبت إحدى الصحف إلى وصف الحجاب بلباس "العاهرات والمومسات". باختصار، فقدت تونس في بضعة أيام كل "الأصول" – بالمصري -. فالحوار عن الحجاب انقلب إلى هتك لأعراض المحجبات واستهزاء من موروث ديني ووطني. لم تكن مسألة الحجاب هي الوحيدة التي لفتت انتباهي خلال إجازتي السنوية في بلادي – وإن غارت علي ... – تونس كانت محطة مرت منها الأديان كلها. ولكل تمسكه بما يعتبره حقه الشرعي في اعتبار تونس جزءا من ديانته. فاليهود يقولون إن بقايا هيكل سليمان موجودة اليوم في كنيس "الغريبة" بجزيرة جربة. أما المسلمون، فالقيروان التي توجد فيها مقبرة قريش – دفن فيها الصحابة أو أحفادهم الذين رافقوا عقبة بن نافع في فتح إفريقية – لا تزال صرحا من صروح الإسلام في العالم رغم التصعيد المزدوج ما بين ظلاميين "حكوميين" وآخرين "سلفيين". لكن المفاجأة أن غبطة أسقف تونس، مارون لحام، أخبرني خلال زيارتي له بأن تونس قدمت للفاتيكان ثلاثة باباوات في أهم مفاصل تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. كان من الرائع أن أطلع على أهمية الدور الذي لعبه البابا التونسي القديس غيلاسي في ضبط العلاقة بين الكنيسة والدولة. في نفس اليوم أعلنت محكمة عراقية عن الحكم بالإعدام على قاتل الزميلة الشهيدة أطوار بهجت والذي كان تونسي الجنسية. و"أخينا" لم يكن ليكتفي بتلك الجريمة النكراء بل كان الرأس المدبر لتفجير مرقدي الأمامين العسكريين في سامراء، في فبراير الماضي. انتابني شعور بأن تلك الصورة الجميلة لتونس اختفت. صورة "حلق الوادي" تلك القرية المطلة على البحر الأبيض المتوسط التي سادها التعايش بين يهود ونصارى ومسلمين لعدة قرون...كلها اختفت. صورة تونس التي يحج إليها الشعراء وينزوي إليها القديسون. المفجع المبكي أن الكل في تونس يلخص لك المسألة في صراع بين السلطة والإسلاميين. أين البقية ؟ أين المجتمع المدني ؟ أين اليسار؟ أين النقابات ؟ هل انتهى ذلك الحلم بتونس تتكامل فيها التيارات ولا تتضارب ؟ هل انتهت تلك الصورة التي قدمها لنا الحزب الشيوعي التونسي – الذي لست من مناصريه – عندما كانت الأديان كلها مجتمعة حول طاولة لتوحيد الصف الوطني ضد المستعمر الفرنسي ؟ آخر جولاتي في تونس العاصمة قبل عودتي إلى الدوحة كانت في "لافايات" و"باب الجزيرة" و"مونتفلوري"، وهي أحياء قديمة ذات طراز غربي. حزنت كثيرا لحالة المباني وتذكرت حينها حال "وسط البلد" في القاهرة و"عمارة يعقوبيان" – وقدر لي العمل قرب العمارة لكني لم أتفطن إليها إلا في الفيلم - . والحال عليه في الإسكندرية والإسماعيلية والدار البيضاء وبيروت والجزائر العاصمة ... الحال واحد : فوضى عامة وانعدام مطلق للتسامح. لكن التاريخ لن يرحم من كان سببا في هذا المشهد المأسوي والذي من الممكن تلخيصه في هذه الرواية التي راجت في باريس حيث أصيب فرنسي بانهيار حاد عندما اعتنق ابنه الإسلام قبل أن يوصيه صديق له بإرساله إلى إحدى الدول العربية لكي "يرتد". وفعلا "ارتد" الشاب. وعندما سئل عن سبب عودته إلى نصرانيته، قال : البوليس عذبني والمشائخ أفزعوني. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ورحم الله الزمن الجميل الذي لم يكن فيه فرق بين عربي أو أعجمي إلا يالإخلاص إلى الوطن وتاريخه الذي داسته الأقدام. *صحفي تونسي