قبل عشرة أعوام بالضبط، أي عندما نسجت شبكة المعلومات العنكبوتية أولى خيوطها في الواقع التونسي لم يكن عدد المبحرين داخل البلاد يتجاوز المئات من المحظوظين في مؤسسات ومواقع أغلبها ذو طابع رسمي أو أكاديمي. أما اليوم، تتكشف صورة الإنترنت التونسي عن خصوصيات طريفة وأخرى فريدة بل غريبة. في عام 1996، كانت المواقع الرسمية والإعلامية التي أنجزت بإرادة سياسية واضحة من أجل محاولة "ملء" الساحة الجديدة التي أدرك الجميع أهميتها و"ثوريتها" هي الطاغية على المشهد الإفتراضي التونسي. في المقابل، ظلت المواقع الخاصة التي أطلقتها أطراف أو أفراد تونسيون (داخل وخارج البلاد) محدودة جدا بل لا تكاد تذكر مقارنة بما يمكن وصفه بالإنفجار المسجل في عدد (ونوعية) المواقع الجديدة في البلدان الخليجية مثلا، أو في الساحات الإفتراضية التركية والإيرانية والهندية والباكستانية. لكن البوادر المحتشمة للحراك السياسي والإجتماعي والثقافي المستقل التي تعددت مظاهرها الجنينية في النصف الثاني من التسعينات داخل البلاد، تبلورت في موفى عام 1998 من خلال تأسيس المجلس الوطني للحريات وتعززت خلال عام 1999 الذي شهد في مناسبة تنظيم الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية تحركات حقوقية غطتها عدد من وسائل الإعلام الأجنبية، ثم وصلت في الأشهر الأولى من عام ألفين إلى ما يمكن تسميته بالمنعرج الحقيقي للإنترنت التونسي. ففي تلك الأيام، أحدث إضراب الجوع الذي شنه الصحافي توفيق بن بريك ورحيل الرئيس الحبيب بورقيبة اللذين تزامنا بمحض الصدفة في شهر أبريل 2000 هزة عنيفة للصورة التي كانت سائدة ومروجة عن الأوضاع التونسية على مدى التسعينات ورجة مماثلة في صفوف النشطاء والنخب السياسية المعارضة أو المستقلة أدت مقترنة إلى تحريك بعض المياه الراكدة وعززت الحاجة إلى توسيع دائرة الإعلام وترويج المعلومة والرأي والموقف في ظل استمرار الإنسداد الإعلامي. لذلك لم تكن مصادفة – حسب رأيي – أن تنطلق في غرة ماي 2000 قائمة مراسلات تونس نيوز وأن يتلوها يوم 2 جويلية موقع تونيزين الذي أسسه المرحوم زهير اليحياوي (والذي نُشرت من خلاله رسالة القاضي المختار اليحياوي الموجهة إلى رئيس الجمهورية في السادس من نفس الشهر). وفي غرة أكتوبر من نفس السنة تأسست مجلة "كلمة" على يد السيدة سهام بن سدرين وفي 20 مارس 2001 أطلقت السيدة نادية عمران مجلة "بدائل مواطنية". منذ ذلك الحين، بدأت الساحة الإلكترونية التونسية تتحرك شيئا فشيئا من خلال منتديات الحوار وقوائم المراسلة والمواقع المستقلة ثم التحقت معظم التيارات السياسية والجمعيات الحقوقية بالموجة وافتتحت مواقع لها على الشبكة تمت استضافتها في الخارج في ظل اقتناع الجميع بأن السياسة الحكومية القاضية بحجب المواقع التابعة للأطراف المعارضة "غير الشرعية " أو "غير القانونية" أو "غير المرغوب فيها" أو "غير المرضي عنها" لن تتغير قريبا. واليوم ما هي الحصيلة؟ من الواضح أن النشطاء والمثقفين وأفراد النخبة عموما والمواطنين التونسيين العاديين وجدوا في الإنترنت متنفسا حقيقيا لهم عوضهم إلى حد ما عن الرداءة السائدة واللغة الخشبية المتداولة والتضييقات التي عفا عليها الزمن. كما سمحت المجلات الإلكترونية وقوائم المراسلة والمنتديات والمواقع (المستقلة أو المعارضة أو الخاصة) لعدد مهم من المعارضين والمثقفين والمفكرين والكتاب والمبدعين التونسيين المقيمين داخل البلاد وخارجها من نشر إنتاجهم وإبلاغ أصواتهم والتحاور فيما بينهم والتعريف بأنفسهم لدى جمهور عريض كان من المستحيل أن ينتبه لمجرد وجودهم. ومع أن الغالبية الساحقة التونسيين لا زالت تجهل الكثير عن ثراء الفضاء الإفتراضي التونسي اليوم، إلا أن التجربة التي صاغها على مدى العشرية الماضية بالكثير من المعاناة (سجن زهير اليحياوي ومحمد عبو وغيرهم) تونسيون وتونسيات متطوعون في معظم الأحيان (بعضهم معروف وكثير منهم لا زال يرفض الكشف عن هويته) تتلخص في أن ما يمكن تسميته بالصحافة (أو النشر عبر الوسائل) التونسية الإلكترونية قد نجحت شيئا فشيئا إلى أن تتحول – رغم الضعف الشديد لإمكانياتها المادية والتقنية والتكنولوجية – إلى مرجع رئيسي للمعلومات وللسجال السياسي والحقوقي والفكري والثقافي في البلاد. إنها مفارقة أن يلتجئ اليوم - أي بعد 10 أعوام كاملة من إطلاق خدمة الإنترنت في البلاد وبعد 16 عاما من انضمام تونس إلى الشبكة العنكبوتية العالمية للمعلومات - المزيد من التونسيين (سواء كانوا معارضين أو مستقلين) إلى المواقع المحجوبة في وطنهم من أجل معرفة بعض ما يحدث في بلادهم أو لغرض التعبير عن آراءهم أو نشر إنتاجهم أو لمجرد التحاور مع مواطنين لهم يخالفونهم الرأي أو التوجه أو التقييم. كما أنه من المؤلم أن يُجري المرء – من خلال ما يُنشر على الشبكة - مقارنة بسيطة بين مستوى حرية التعبير في بلادنا المستقلة منذ نصف قرن وبين ما وصلت إليه على الإنترنت في الجزائر والمغرب المجاورتين (ولا أقول مصر والإمارات والسعودية واليمن والكويت والأردن وغيرها). من هنا جاءت الإشارة في بداية النص إلى "فرادة" التجربة التونسية. فقد أدى التضييق الشديد داخل البلاد إلى تحويل المواقع التونسية المستضافة في الخارج (لسبب أو لآخر) إلى قاطرة حقيقية تدفع باتجاه توسيع مجال حرية التعبير في وسائل الإعلام الرسمية أو الخاصة خصوصا وأن التطور التكنولوجي المتسارع واتساع استعمال الإنترنت في البلاد قد أدى إلى تزايد عدد المطلعين بشكل أو بآخر على ما ينشر ويُكتب عن الأوضاع والشؤون التونسية. أما وجه الغرابة فهو أن تونس التي سبقت بسنوات معظم البلدان المغاربية والعربية والمشابهة لها في اعتماد الإنترنت وتطوير استعماله في الإدارات والجامعات والمؤسسات العمومية لا زالت متخلفة – على مستوى حرية التعبير والنقد والمشاركة في الحوار العمومي – بأشواط عديدة عن بلدان أقل منها نموا (مثل السينغال وبوركينا فاسو والبينين وكينيا وما شابه) رغم توفرها على نخبة وطنية عريضة ومتحفزة لا نظير لها تجيد التعامل مع أكثر من لغة وثقافة وتنتشر في مشارق الأرض ومغاربها واكتسبت من التجارب والخبرات ما يؤهلها لتبوء المراتب الأمامية في هذا المجال الحيوي. إن مراجعة بسيطة لمحتويات المواقع التونسية المستقلة وللمجلات الإلكترونية وللمدونات الشخصية (بلوغز) التي بدأت تتوسع بدورها بقوة منذ عام 2005 ولعدد من المواقع والمنتديات الرياضية والعامة (من داخل البلاد) تقيم الدليل بلا ريب على أن الوضع التونسي الفريد والغريب يعيش آخر مراحله رغم كل المحاولات الجارية (تقنيا وتشريعيا) لتمديد العمر الافتراضي لنسق وأسلوب تجاوزه العصر "نهائيا وإلى الأبد". (*) رئيس تحرير الموقع العربي لسويس انفو