تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابن خلدون أو أصالة بنية التفكير
نشر في الوسط التونسية يوم 16 - 07 - 2007

رجل دولة وسياسي مغامر.. عرف عن كثب التباسات العروش والدول والملوك والعصبيات وكان صاحب حظ طيب
امتلك ابن خلدون طاقات مكنته من أن يكون ضرورياً ومطلوباً حتي في بلاط تيمورلنك الذي اتسع لتحطيم إمبراطوريات
محمد نعيم فرحات
قد لا ينطوي الأمر علي أي جديد إذا ما قلنا بأن ابن خلدون قد قدم رؤيا عميقة وثاقبة لعالمه، جاءت كحصيلة لحضور سياسي وفكري اتسم بدهاء وذكاء مميزين، وقد أثمرت علاقته الفعالة بعالمه المنفعلة به أثراً، ها هو يدوم بأكثر مما دام صاحبه في الحياة الدنيا ولا يخلو الأمر هنا من عظمة ما.
وربما يقدم مفهوم رؤيا للعالم ، الحديث نسبيا القديم مضموناً، مساعدة مهمة في تناول فكر ابن خلدون وآثاره، رؤيا للعالم بما هي كلية دالة من القيم والمعايير تعبر عن الوعي المثالي ، ..أقصي الوعي الممكن وليس عن الوعي الامبريقي لأعضاء الجماعة كما يقول لوسيان غولدمان. وبما هي ايضا وحده متكاملة لمجموعة العوامل الذاتية والموضوعية التي تقود إلي تحقيق إنتاج جديد، أصيل وذي قيمة من قبل (فرد) أو (جماعة) . وكذلك بصفتها استقطاباً مفهوميها (عميقاً) للاتجاهات الواقعية والوجدانية والفكرية ... لأعضاء جماعة ما .
ويمكن القول بأن فكر ابن خلدون والوعي الذي قدمه لعالمه لهو من أهم التعبيرات في موروثنا عن رؤيا للعالم بمعانيها الانفة وكأمر يتصل بفهم وتفسير إشكالية ملموسة مسجلة في تاريخ المجموعات الاجتماعية التي ننتمي إليها .
ولكن السياق الذي تَولدَ فيه مفهوم رؤيا للعالم يعطي أهمية بالغة لموضوع العلاقة والارتباطات البنائية المفترض قيامها، بين وعي النصوص ووعي العالم الذي صدرت عنه وحاولت نمذجته، وبقراءة فكر ابن خلدون من هذه الزاوية فإن قوة التثاقف النقدي بين وعي نصه ووعي زمانه وقضاياه ومتطلباته من جهة، وتوصل العديد من المقاربات الجدية لتأكيد هذه الارتباطات في المثال الخلدوني من جهة أخري، تمكننا من المجازفة والتعامل مع علاقة الارتباط بين نصه وعالمه كمعطي ، قائم لا يحتاج لافتعال العلائق أو البحث عن مسار من البرهنة حول وجودها. إننا نقف بإزاء رؤية حقيقية ومركبة لعالمها، وهذا ما يشكل خاصية عامة ذات دلالة مهمة في قراءة ابن خلدون وفكره معا.
أما بالنسبة لهذه الورقة فإنها تطرح علي نفسها الانشغال في أمر محدد بالذات يأتي علي هيئة تساؤل، وهو: ما الذي يجعل ابن خلدون واطروحاته ورؤيته في التاريخ وطبائع العمران والاجتماع الإنساني تنطوي علي قدرة جوهرية لمقاربة الواقع الراهن ومساهمتها في تقديم فهم وتفسير له ولظواهره !!!! وما الذي يجعل ابن خلدون قابلا للاستعادة والاستحضار المعرفيين وضروريا إلي هذا الحد في راهننا !!!.
..إن جهد هذه الورقة معنيُّ بالتأكيد علي انشغالها وحدوده، وهو ليس بوارد التورط في عوالم ابن خلدون إلا بمقدار ما يحقق ذلك غرضه، وان هذا التشديد في تحديد هدف الورقة يرمي لضبط مسار تطرقها ومسار التعقيب عليه.
وتمشيا مع المنحي الذي جري تحديده للتو، فان مسار التطرق لفكر ابن خلدون ورؤيته للعالم سيرصد أو يحاول بناء سمات وخصائص انطوي عليها خطابه، بصورة تمكن من وضع إجابات للتساؤلات المطروحة آنفاً.
الجدة والإبداع
... في هذا السياق فان القراءة الأولية لفكر ابن خلدون تحيلنا للوقوف أمام خاصية مركبة تتكون من قيمتين متلازمتين في نصه هما الجدة والإبداع ، جدة اتسمت بانفتاح واسع علي النقد والتمحيص والتجاوز المعرفي في تعاملها مع السائد في عصره ومورثاته، وكذلك كان أمرها مع المفاهيم والأحوال. أما الإبداع فقد عبر عن نفسه في غير صعيد، سواءً تعلق الأمر بكيفيات التناول أو مقاربة المسائل أو في الاستخلاص وبلورة المفاهيم وفي غير ذلك.
...لقد مهد ابن خلدون لما سماه بالعلم الجديد باستعراض متطاول ونقد منهجي، حشد فيه قدرات كبيرة وبني في محصلتها مفهوما وتصورا خاصا به للتاريخ الإسلامي ومسيرته، وهو تصور مستمد من ظروف تجربته ووقائع عصره والمعطيات الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات التي عاش فيها ودرس أحوالها .
إن ظاهر نص ابن خلدون نفسه وليس باطنه فحسب أو القراءات التي تناولته، هو الذي يُدللُ علي قيمتي الجدة والإبداع. يقول ابن خلدون. ..فأنشأت في التاريخ كتاباً، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، وفصلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسبابا، وبنيته علي أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار وملأوا أكفاف النواحي منه والأمصار... وهما العرب والبربر.... فهذبت مناحيه تهذيبا وقربته لإفهام العلماء والخاصة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا وطريقة مبتدعة وأسلوباً.. وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض .
وفي تعريفه للتاريخ الذي أنشأه يشير ابن خلدون إليه، كفن من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وهو في ظاهره لا يزيد علي إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولي..وفي باطنه فهو نظر وتحقيق للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق .
.. بهذه الصورة عرض ابن خلدون فهمه للتاريخ الذي مَوضع فيه الاجتماع الإنساني والعمران البشري، وهو فهم حقق فيه تجاوزا للنظام المعرفي القديم من جهة، وشكل نقدا جذريا للخطاب التاريخي التقليدي من جهة ثانية، ورد فيه التاريخ إلي قوانين التاريخ والمجتمع إلي طبائع العمران من جهة ثالثة، ووضع حدا لاستنساخ ينتمي لأنماط السرد من جهة رابعة.
وقد كان الجهد النظري والمنهجي الذي بذله ابن خلدون في هذا الاتجاه جهدا مميزا، سواءً في أشكال التطرق أو في مضامينها أو في قيام قراءته علي التحليل والبرهنة والمقابلة والتقليب، وقام بتشغيل هذه القوي في نطاق محاولته لفهم وتفسير و تنميط الظواهر والأحوال التي تناولها.
أما الخاصية الثانية التي يمكن بناؤها أو ملاحظتها في نص ابن خلدون فهي تعدد الأبعاد والاتساع والتداعي في تناوله. وداخل هذا التعدد تطرق ابن خلدون لكل المستويات الممكنة: النفسي في بعديه (البيولوجي والروحي) والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والبيئي والذهني والثقافي..وما يترتب عن هذه المستويات ويتولد من تفاعلات ومشاركات وتداعيات وأبنية وأوضاع.بل لقد امتد هذا الاتساع والتعدد لأفق يصعب ضبط مواضيعه أو امتداداته. ويقول عابد الجابري ليس الشيطان وحده هو الذي يستطيع أن يجد في المقدمة ما يرضيه أو يسخطه، بل المؤمن والملحد، والكاهن والمشعوذ، والفيلسوف والمؤرخ، ورجل الاقتصاد وعالم الاجتماع، حتي كارل ماركس نفسه... كل اولئك يستطيعون أن يجدوا في المقدمة ما يبررون به أي نوع من التأويل وما يقترحون لأفكار ابن خلدون .
ولا يرتبط الأمر هنا بمناورة فكرية لرجل مُقتدر، أو باستلاب لما يتضمنه نص حقيقي من طاقة فسيحة لتوليد الدلالات، بمقدار ما يرتبط بفيض معرفي وقدرة موسوعية، وتوجه نظري ومنهجي متميز، أفصح مرارا عن خياراته المختلفة والجديدة. وفي نطاق هذه الخيارات انطوي التعدد والاتساع علي ديناميكية التوليد والتداعي بصورة مثيرة، وظهرت تعبيراتهما في الكم كما في النوع، وفي التعُقب والاستقراء والاستنتاج والتنظير وبلورة التصورات والمفاهيم.
وبينما تشير هذه الخاصية لواحدة من مكامن القوة في الأثر الذي تركه ابن خلدون، وما تتيحه من إمكانيات للتأويل وطاقة علي استدراجه في آن، فإنها توفر(أيضا) أفقاً من البحث من خلال الارتباطات الكامنة بين خاصية التعدد والاتساع وعناصر وأبعاد معينة في شخصية ابن خلدون وتكوينه وسيرته. خصوصا وأننا لا نقف عند فكر انتقائي تلفيقي، بل فكر موسوعي نقدي انتقد فيه المؤرخين والمعرفة والعلوم السائدة في عصره وقدم تشخيصا لطبائع الثقافة والدولة والتاريخ من موقعه كمشارك علي نطاق واسع في الحياة السياسية لعصره وكمتأمل ومتفكر فيه معا.
أما الخاصية الثالثة في فكر ابن خلدون، فتتمثل في وجود حس ووعي وانتباه مميز عنده للخصوصيات والتقاطها وتصنيفها وتعليلها، وهذا ما نجده في تناوله ل أمم وأقوام وبيئات وأقاليم وثقافات وأوساط وحقب وعصبيات ، لقد مكنته اليقظة في هذا المستوي من قوة جوهرية بالغة الأهمية أدمجها في تحليله وعبر عنها في بني القول، وأتاحت له فضاءات للمقارنة والمقابلة والمفاضلة، وتفادي من خلالها واحدة من أكبر التهديدات التي تقف في وجه الجهود المعرفية عند اشتغالها بالظواهر والحقول، حيث أن إشكالية العام والخاص في الحقل المعرفي ما زالت تشكل تحديا كبيرا.هذا بالرغم من وجود تحفظات بعينها علي بعض التعميمات التي توصل إليها ابن خلدون.
وإنه لأمر مثير وجدير بالتوقف ألا ينحصر منطق البحث عن خصوصيات الظواهر والأحوال في تناول ابن خلدون عند التاريخ فقط لأنه امتد لتناول الفروق بين منطق السماء والمنطق الذي يحكم الأرض، وتحديدا فيما يرتبط بالدولة وأمور السياسة والحكم، حيث الدين يحيل إلي أعلي، أما الدولة فتحيل إلي الدنيا والتاريخ والقوي الحاكمة فيهما. وإذا كان المنطق والتفكر يدلنا علي درجة استبطان السماء لمعطيات الأرض والتاريخ وقوانينه، إلا أن التصنيف النظري الذي قدمه (الفقيه) ابن خلدون في هذا الخصوص يظل جديرا بالتأمل، لأنه يتناول عالما مشبعا في وعيه ولا وعيه بالإسلام كدين وكدولة، وهذا الوعي يتوق (كما عند قطاع مهم من الناس بغض النظر عن مدي سعيهم لتطبيقه في الواقع) لحرفية تجسيد ذلك في التاريخ وليس تجسيد الدولة متأثرة بروحية الدين.
ويقول علي أومليل لقد ميز ابن خلدون بين نوعين من الخطاب، خطاب يحمل أمرا إلهيا مقدسا (يحيل لعالم الغيب) وخطابا يخبر عن واقعات من عالم الطبيعة (ويحيل إليها) .... ويضيف لقد تمتع ابن خلدون بجرأة الفصل الابستمولوجي بين العالم المقدس والعالم الطبيعي رغم التحامهما في المستوي الانطولوجي عند المسلم .
...ويشير أومليل إلي أن ابن خلدون قد حقق خطوة هامة في مستوي تنظير التاريخ العربي بفصله المنهجي لعلم التاريخ عن العلوم الدينية .. ويستنتج بأن هذا الفصل هو إنجاز جديد لم يسبق إليه صاحب المقدمة أحد .
وإذا كانت السمات السابقة وأخري غيرها، تجد صداها الواسع في نص ابن خلدون وتشتغل بصورة متنافذة ومتكاتفة ومتساندة فيه، وبمقدور كل منها أن تشكل مركزا أو منطلقا لمقاربة جوانب محورية فيه، إلا أن قيمتها الأهم تكمن في استبطانها وارتباطها بسمة أو خاصية أم تشكل المحور الأساسي في بنية تفكيره، وهي قيمة الأصالة. إنه لمن الصعب تصور تمايز ودوام محاولة ابن خلدون لاستخلاص قوانين عامة لحركة المجتمع والدولة ، ووضع توصيفات ومفاهيم تمتلك كل هذه القدرة والصلاحية بدون إدراك قوة الأصالة في بنية تفكيره.
وبمقدور هذه الخاصية أن تفسر لنا الكثير من المسائل في فكر ابن خلدون، ومنها قدرة هذا الفكر علي أن يكون راهنا. وان ينطوي علي كفاءة لقراءة الحاضر، وهنا نصبح إزاء خاصية تُوِلدُ خصائص أخري وتُولدُ منها أيضاً. وقد كانت قدرة فكر ابن خلدون علي أن يكون راهناً وعابراً لزمانه محل تتبعات واعترافات لقراءات جادة عديدة. وفي قول محمد عابد الجابري، فإن الفكر الخلدوني فكر فلسفي، والفكر الفلسفي الأصيل يتجاوز عصره بمقدار ما هو نتاج (له) .
بيد أن هناك قوة دفع تتجاوز كل ما تحشده البراهين النظرية علي راهنية فكر ابن خلدون وقدرته، وهي قوة تكمن في التاريخ الحالي نفسه، ويقدم هذا الأمر السند القوي لخاصية أصالة الرؤية وراهنيتها، حيث نجد واقعا يُعيد بحيوية إنتاج روحية العديد من الشوائب البنيوية التي عرفها عصر ابن خلدون وتحكمت (في) وحكمت أحوال الدول والناس والتاريخ والبنيات الذهنية لهذا العصر، وهو ما كان موضوع انشغال فكره وتشخيصه ونقده ودعوته للتغيير والتجاوز.
راهنية ابن خلدون
ورغم اختلاف الأزمنة والأحوال والظروف. إلا أن هذه الشوائب ظلت قادرة علي التعبير عن نفسها، وهنا فإن قوة راهنية ابن خلدون تجد جذورها في الروابط البنائية التي يمكن إقامتها بين فكره في أبعاده المتعددة من جهة، والواقع الراهن ومستوياته المختلفة من جهة أخري، خصوصا المستويات التي تعبر عن الشوائب البنائية.
وهنا نقف عند نقطة مفصلية، وهي أن فكر ابن خلدون قد حقق قطيعة معرفية في مستويات مهمة مع أنماط تفكير سابقة ومعاصرة له، إلا أن الواقع والتاريخ ووعي الفاعلين التاريخيين المتعاقبين فيه وبناهم الذهنية لم تشهد قطيعة موازية. لقد ظلت هذه البني مخلصة لطبائع الذهن والتفكير وشوائبها ولم تشهد انقطاعاً حقيقياً متواصلاً ومتراكماً بشكل يفضي إلي نمط مختلف. وإن ما شهدته العصبيات والأحوال والدول والمجتمعات التي عاصرها ابن خلدون وتواترت من بعده حتي الآن، من تحولات وانقطاعات بنيوية سلبية أو ايجابية (وهو أمر يشير إلي حيويتها بكل حال) يُمدنا بحشد من النماذج التحليلية في هذا الشأن. نماذج تمكننا قراءتها من الوقوف علي درجة تمأسس وتماسك وتواصل الشوائب البنيوية في بنية وعينا وتاريخنا، دون أن يعني ذلك بأنها قدر لا يمكن تخطيه، ولكن محاولات تجاوز هذه الشوائب عانت (غالبا) من عدم اكتمال شروط التغير.
ومقابل الاشتغال الحيوي والممأسس لهذه الشوائب، كانت المعطوبية تكمن في صلب
المزايا البنيوية لمجتمعاتنا. وقد عبرت هذه المعطوبية عن نفسها من خلال الانقطاع والعجز عن التراكم والتأسيس.
ومن خلال قابليتها للإنبات لأسباب ذاتية وموضوعية، وفي أفضل حالاتها فقد اشتغلت هذه المزايا بصورة جزئية، وارتبطت (عموما) بزمان ومكان ومرحلة وشخص، بدون آفاق حقيقية للتوريث أو التوسع، وكانت عرضة لانقضاض الشوائب عليها من داخلها ومن محيطها معا.
...وهنا يشكل وعي الواقع الراهن وإدراك تشابهه مع روحية الواقع القديم الذي عاشه ابن خلدون وتقاطع هذين الواقعين في مسائل أساسية، قوة الدفع الموضوعية لاستحضار فكره وأطروحته، ولكن ليس علي سبيل الاعتراف أو التذكر بل كحاجة، خصوصاً وأننا لم نعرف محاولات تشخيص وتوصيف طاولت أو تخطت محاولة ابن خلدون في عمقها وشمولها وقدرتها، دون أن يعني ذلك تجاهل اطروحات تالية وحديثة أو تجاهل مساهماتها.
..وفي هذا النحو يمكن ملاحظة تحالف موضوعي يقوم بين أصالة بنية التفكير عند ابن خلدون من جهة و بنية الشوائب الأصيلة في واقعنا من جهة أخري. وقد يبدو هذا التحالف مثيراً، غير انه منطقي، لأن عمل بنية الشوائب أفضي لأوضاع تحتاج فيما تحتاج في لحظة ما (وخصوصا عندما تصلبت وصارت عاجزة وظيفيا) لبنية تفكير أصيلة لفهمها وتفسيرها ومحاولة تغييرها، وفي هذا السياق تتولد الحاجة لفكر ابن خلدون ويتولد البحث عنه أيضا.
غير أن فكر ابن خلدون وأصالته وما له وما عليه، يحتاج لحمايته من تطرفين: الأول، التأويل المفرط من طرف المولعين به، والثاني، إفراط المناوئين له في تشويه نصوصه ودلالاتها، لأن كليهما يشتركان في الاعتداء علي فكره بشكل غير لائق.
وإذا كان التأويل ضرورياً لفهم معني العمل كما يقول ماكس فيبر، وله دور يؤديه أيضاً في خدمة البناء التاريخي للمفاهيم، ويساعد علي فهم عناصر ذات معني ككل تاريخي ملموس، فإن ابن خلدون يحتاج لاستحضار وتأويل أصيلين بما يوازي أصالة بنية التفكير عنده.
أما الفائدة التي هي محل الرهان في استحضار ابن خلدون فتتمثل في مساعدتنا علي التعامل مع إشكاليات تاريخنا الراهن، وهذه مسألة تحتاج لشرط يتجاوز قدرتنا جميعا حتي هذه اللحظة وهو توفر فاعل وحامل تاريخي حقيقي لمتطلباتها وشروطها. فاعل تاريخي يطرح علي نفسه إحلال المزايا المُحبطة محل الشوائب الفعالة في مواجهة الراهن وتحدياته، ويتجاوز بؤس الحاضر ولكن ليس باتجاه تحويل الماضي سيدا للأيام ، بل يتجه إلي المستقبل بصفته حقل الرهان الممكن والمتاح، ويدمج استحضار الماضي والحنين في حقل الفعل في إطار مكابدات المصير، وفي مثل هذا السياق سنعثر علي أعمق أشكال التكريم والمعني التي يمكن تخيلها وتكون جديرة بابن خلدون والحضور المجدي لنا في التاريخ أيضا.
الحاجة لابن خلدون
.. أن تزداد الحاجة لابن خلدون كلما ابتعدت ذكري رحيله في الموت والزمن والذاكرة، فإن الأمر لا يخلو من مفارقة فيما تبقي مقدمته ليست مجرد مقدمة في التاريخ، وإنما مقدمة لا غني عنها لتأسيس وعي عربي جديد قادر علي التعامل مع العالم بموضوعية فعالة .
ولكن هناك ما هو مثير أيضاً، حيث أن الفكر والذكري التي نحن بصددهما يخصان رجل دولة وسياسياً مغامراً، عرف عن كثب التباسات العروش والدول والملوك والعصبيات، وكان حاضراً في مشاهدها بصورة لافتة. وكان صاحب حظ طيب إلي حد بعيد، بدليل تعاقب هلاك الدول والعصبيات ونجاة ابن خلدون بمكانة مضمونة ولائقة (غالبا) في العصبية القادمة، في الوقت الذي كان فيه علي ارتباط قوي بالعصبية الهالكة. لقد امتلك ابن خلدون طاقات مكنته من أن يكون ضرورياً ومطلوباً عند جميع المعنيين بعصره تقريباً، وكان قادراً علي أن يعطي لحضوره معني خاصاً حتي في بلاط تيمورلنك الذي اتسع لتحطيم إمبراطوريات وأمم. وفي نفس الوقت قام ابن خلدون بفكرنة ونمذجة مدهشة وواسعة لتجربته وانفعالاته، بصورة يصعب الجدال في كفاية أصالتها وقدرتها معا، دون أن يعني ذلك التسليم الآلي بكل امتدادات تفكيره.
ہ ورقة مقدمة لمؤتمر ابن خلدون عالماً ومفكراً وسياسياً تونس من 12 14 نيسان (أبريل).
في المعهد العالي للعلوم الإنسانية
ہہ أستاذ مساعد في علم الاجتماع في جامعتي القدس المفتوحة وبيت لحم فلسطين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.